Thursday, June 24, 2010

تاريخ الرق فى السودان

تاريخ الرق في السودان:الشماليون اعتبروا «الزبير ود رحمة» بطلا ووجدوا له الأعذار لممارسته «تجارة الرق»
* يسرد الدكتور منصور خالد في كتابه جانبا من تاريخ تجارة الرق في السودان فيقول:للرق تاريخ طويل في السودان يعود لما قبل الحكم التركي (1821 ـ 1889) الا ان التوسع والتحديث في الاقتصاد الزراعي في ذلك العهد واكبه نمو ملحوظ في امتلاك الرقيق الزراعي، كما اصطحب قيام الدولة المركزية نمو متزايد لظاهرة الرقيق العسكري، فامتلاك العبيد في عهد الفونج (العهد الذي سبق الحكم التركي) كان مقصورا على النبلاء والاقطاعيين. كما اقتصر دور الأرقاء على القيام بالأعمال المنزلية، والمعاونة في الزراعة المحدودة، والتسري (الإماء). استخدم الرقيق ايضا في العهد السناري، وبصور واسعة، لحراسة الثغور النائية للمملكة، والتي اخذت في التوسع بعيدا عن حاضرة الملك في سنار. فالرق، اذن، كان مؤسسة بارزة في المجتمع الشمالي المسلم قبل مجيء الأتراك، وكان ذلك المجتمع يشبع حاجته للعبيد باصطياد غير المسلمين من الجزء الشمالي من جنوب السودان (خاصة مناطق الشلك)، وجبال النوبة، وجنوب النيل الأزرق على حدود إثيوبيا. حتى إثيوبيا نفسها لم تنجح من قناصة الرقيق السودانيين، خاصة لاستجلاب النساء المكاديات (ومكادا اسم عربي قديم لبلاد الأحباش).
وما زال أهل الشمال حتى اليوم يحسبون الزبير ود رحمة (أحد تجار الرقيق الشماليين) واحدا من ابطالهم، ويتوسلون المعاذير لولوغه في النخاسة. من تلك المعاذير افلاحه في نشر الاسلام في الجنوب واقامته دولة فيه، وبسالته في حروب الأتراك. وما اقام الزبير الا سلطنة بطرقية، هو بطريقها الاكبر، ومثل كل البنى البطرقية كانت تحكمها تراتبية اجتماعية يهيمن فيها الاكبر على اصغر، والذكر على الانثى والسيد على العبد، وادنى طوائفها العبيد. ولا شك في ان الاسراف في تمجيد الرجل ـ رغم شجاعته وطموحه ـ يشي بفقدان للحساسية تجاه ضحاياه، خاصة وما زالت ممارسات الرق تلقى ظلا كثيفا على العلاقات الشمالية الجنوبية، أي العلاقات بين الورثة المعنويين للزبير والورثة المعنويين لخصومه.
* فهم القضية: وحتى يمكن فهم مؤسسة الاسترقاق فهما صحيحا يجب ان نضعها في سياقها الموضوعي ومسارها التاريخي الصيحيح. ويحسن بنا ايضا ان نزيح عنها الاقاصيص التي ما فئتت تؤسطرها، وننفي عنها الانقباضات الانفعالية التي ظلت تصاحبها. ان فشلنا في هذا، فلن ننصف التاريخ، ولن يتسم حكمنا بالموضوعية، كما لن نسهل الامر على انفسنا في معرض بحثنا عن حل للمشاكل التي ورثناها عن تلك المرحلة المخزية من تاريخ السودان ان لم نتوخ المقاربة الموضوعية للمشكل. لهذا نبدأ القول بأن الاسترقاق في الشمال النيلي في عهوده الأولى لم ينحصر على النوبة والأحباش والشلك، وانما كان الشماليون انفسهم يغزون بعضهم البعض من اجل السبي، ومثال ذلك حملات النوبة ضد المستضعفين من حولهم. ووراء حملات النوبيين على من جاورهم تاريخ طويل منذ ان اخذوا يدفعون بالقادرين من بنيهم وبناتهم الى الحاكم الاسلامي في مصر امتثالا لاتفاق مذل تعاهد فيه حاكمهم قليدرون مع عبد الله بن أبي السرح على ان يعطيهم الأمان لقاء مد الدولة الاسلامية بثلاثمائة وستين رقيقا كل عام ليس فيهم شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم. للايفاء بذلك الاتفاق الذي ظل راسيا لمدة ستمائة عام حتى العهد الاخشيدي. لجأ النوبة لاختطاف الرجال والنساء من الاقوام المستضعفة التي تحيط بهم. وشهد السودان الشمالي ايضا غزو ملوك الفونج لمملكة تقلي المسلمة على عهد بادي أبو دقن لسبي نسائها واستعباد رجالها، كما شهد حملات المك (أي الملك) عدلان على الهمج واسترقاق بناتهم بمن فيهم بنات شيخهم أبو لكيلك. وينسب شبيكة قبيلة الهمج الذين كان يستهجنهم ملوك الفونج الى الجعليين العوضية، على ان الهمج عندما ملكوا زمام امرهم في عام 1762، ثاروا على سادتهم الفونج واقتلعوهم من عرشهم وولوا محمد أبو لكيلك نفسه على الملك. ظاهرة تعدي المجتعمات القوية على المجتمعات الضعيفة من حولها، كما قالت المؤرخة الاجتماعية ويندي جيمز، ليست فقد نتاجا لدوافع سياسية او اقتصادية، وانما ايضا هي تأكيد لقوة المجتمعات المعتدية، وضمان لتلاحمها الاثني، وتماسكها السياسي.
وان اتجهنا الى غرب السودان، نجد ان ظاهرة الاسترقاق كانت متفشية في دارفور منذ عهد ملوك الكيرا. ويروي مؤرخ نابه ان دارفور كانت تصدر في العالم الواحد ما بين ثلاثة الى اربعة آلاف رقيق الى تركيا ومصر. وللمؤرخ أوفاهي رأى فريد نفذ فيه الى ما نفذت اليه وبندي جيمر من ان الفور، بعدوانهم على القبائل المغلوبة على امرها، كانوا يسعون ايضا لتأكيد منعتهم واثبات سيادتهم. عرفت الرق ايضا في غرب السودان سلطنة المساليت، حيث كانت طبقات المجتمع تصنف تصنيفا صارما. حسب ذلك التصنيف كان الماجير (العبيد الذكور) يحتلون الدرك الاسفل من طبقات المجتمع بعد الحكام ثم المساكين (عامة الشعب)، اغلب هؤلاء العبيد يتحدرون من قبيلة الداجو. ومع ان المساليت كانوا يصنفون كل غريب عليهم في خانة العبيد، الا ان الثقافة السائدة بينهم كانت تتيح لهذا النوع من «العبيد فرص الترقي حتى يصبحوا جزءا لا يتجزأ من النسيج العام للقبيلة». اما في الجنوب، فقد اشتهر الزاندي بالاغارة على قبائل الفرتيت الاقل شأنا في بحر الغزال، لا بغرض الاتجار وانما لأداء الخدمات المنزلية في مساكن سادتهم. ولكن سرعان ما انخرط الزاندي في تجارة الرقيق بعد وصول الجلابة حيث اخذ الزاندي يقايضون عبيدهم لقاء السلع الضرورية، وبوجه خاص الاسلحة النارية. وانتهى الامر بالزاندي للعمل في وحدات تجار الرقيق العسكرية المعروفة بـ«البازنقر».
الاسترقاق لم يكن ظاهرة موقوفة على السودان، بل عرفته كل الدول الأفريقية، في الشرق كان ذلك او في الغرب. فمثلا، كانت قبائل الأشاتي والداهومي، وهي قبائل محاربة في غرب أفريقيا، تستعبد، القبائل الضعيفة التي تحيط بها. وفي الشرق بقي الاسترقاق مؤسسة معترفا بها في الحبشة حتى الاربعينات من القرن الماضي (1942). ومع الغاء الرق في ذلك العام، استمرت قنانة الارض في اثيوبيا صور مختلفة طوال العهد الامبراطوري، وكان ضحايا ذلك الاسترقاق، في الاكثر، من بين القبائل التي تعيش عند منحدر النيل الأزرق وتعرف بالشانكلا، أي الدهماء. من جانب آخر، شاعت تجارة الرقيق ايضا بين عرب الساحل الأفريقي الشرقي خاصة في زنجبار، وكان فارسها تيبو تيب، الذي سارت بذكره الركبان، رجلا من نسيج الزبير رحمة.
في تكثيف غير مخل، تلك هي الصورة العامة لظاهرة السبي والاسترقاق في السودان وأفريقيا. وبرسمنا لهذه الصورة نبتغي الخروج بظاهرة الرق من مربع الانفعالات. بيد أننا نذكر في ذلك الوقت بأن الموروثات الثقافية من تلك الظاهرة، والتي تتمثل في ظواهر اجتماعية أتينا على بعضها وسنأتي على البعض الآخر، هي التي تجعل من استرقاق الشماليين للجنوبيين أمرا مؤرقا، وتزيد من غليان الانفعالات.
* الغاء الرق: وعلى أي، فبحلول أغسطس (آب) 1877 تم ابرام معاهدة الغاء الرق الانجليزية المصرية والتي اجبر الخديوي ـ وفق نصوصها ـ على تحريم الاسترقاق وتجارة الرقيق في المناطق الواقعة تحت سيطرته. وكانت الدولة العثمانية نفسها قد اعلنت الغاء تجارة الرقيق في عام 1874، واغلقت كل اسواق الرقيق في اسطنبول. وللاشراف على تنفيذ القرار عين الخديوي، بايعاز من بريطانيا، كلا من صاموئيل بيكر وتشارلز غوردون في عام 1869. وفي أول تقرير له اورد غوردون ان السودان قد صدر ما بين ثمانين ومائة ألف عبد في الفترة ما بين 1875 ـ 1879. ولكن، مع تظاهرهم بالالتزام بالغاء الرق، ظل وكلاء الخديوي في السودان يغضون الطرف عن الاسترقاق زاعمين بأن أي محاولة لاطلاق سراح الارقاء لن تجدي، اذ سرعان ما يستعيد السادة عبيدهم القدامى. حقيقة الامر، ان الخديوي نفسه لم يكف، حتى بعد الالغاء، عن اصدار اوامره بالتجنيد العسكري للزنوج في الجيش. لا عجب، اذ ظل قصر الخديوي في مصر يكتظ بعد الغاء الرق والدعوة لتسريح الارقاء، بمئات الجواري من الروميات والشركسيات ممن كن يعرفن بالقلفاوات. وحيث كانت محاربة الرق ممكنة (جنوب السودان) فان حملات بيكر الضارية ضد تجار الرقيق ومصادرة ما يملكون من عبيد، كانت ذات اثر سلبي على الحكم التركي اذ عبأت كل تلك الجماعات ضده.

No comments:

Post a Comment