Thursday, June 24, 2010

المجتمع المدنى-و السياسى و الديمقراطية

بعض اشكاليات المجتمع المدني و المجتمع السياسى و الديمقراطية
على الصعيد المفاهيمي اعتبر غرامشي المجتمع المدني احد مكونات البنية الفوقية. ففي احد النصوص الهامة في دفاتر السجن كتب غرامشي قائلا : " ما نستطيع أن نفعله حتى هذه اللحظة، هو تثبيت مستويين فوقيين أساسيين، الاول يمكن أن يدعى المجتمع المدني، الذي هو مجموع التنظيمات التي تسمى (خاصة) والثاني هو المجتمع السياسي أو الدولة. هذان المستويان ينطويان من جهة اولى على وظيفة الهيمنة حيث إن الطبقة المسيطرة تمارس سيطرتها على المجتمع، ومن جهة ثانية تمارس الهيمنة المباشرة أو دور الحكم من خلال الدولة أو الحكومة الشرعية ". ويضيف في مكان أخر قائلا : " ينبغي الانتباه الى أن في مفهوم الدولة العام عناصر ينبغي ردها الى المجتمع المدني، إذ تعني الدولة : المجتمع السياسي + المجتمع المدني، أي الهيمنة المدرعة بالعنف " . ويضيف " لا ينبغي أن يفهم بكلمة دولة جهاز الحكم فحسب، بل جهاز الهيمنة الخاص أو المجتمع المدني " . الدولة، حسب رأي غرامشي، هي المجتمع السياسي (سلطة الدولة) زائدا المجتمع المدني (الحقل الايديولوجي أو الاجهزة الاعلامية والتربوية للدولة البرجوازية الحديثة). ومن جهة ثانية أدخل غرامشي قطيعة جديدة في المضمون الدلالي Semantic لمفهوم المجتمع المدني، بإعتباره فضاء للتنافس الايديولوجي. فإذا كان المجتمع السياسي حيزا للسيطرة بواسطة سلطة الدولة، فإن المجتمع المدني فضاء للهيمنة الثقافية الايديولوجية، ووظيفة الهيمنة Hegomony هي وظيفة توجيهية للسلطة الرمزية التي تمارس بواسطة التنظيمات التي تدعي أنها خاصة مثل النقابات والمدارس ودور العبادة والهيئات الثقافية المختلفة. تتبدى استقلالية الايديولوجيا في الهيمنة الثقافية باعتبارها رؤية للعالم لا تستمد قوتها وقدرتها من التغلب وفرض السلطة كما هو الامر في حالة السيطرة، ولا من عقلانية مفترضة أو منطق مجرد، بل من احتضان كتل المجتمع المتجانسة واقامة اللحمة بينها. هذه الهيمنة الثقافية التي لا تعرف مركزا ولا تأتي عن ألية موحدة، بل هي نشاط متعدد المراكز يقيم تجهيزاته وتنظيماته خارج الدولة، وفي فضاء المجتمع المدني تحديدا، في محاولة منها – الهيمنة – لاقامة سياسة للايديولوجيا يكون الهدف منها استعادة المجتمع المدني لحقه في ممارسة شرعيته والوصول الى سيادته على مكونات وجوده الخاصة. بهذا يكون غرامشي أول من استعمل مفهوم الهيمنة بمعنى القيادة، وايجاد سياسة ثقافية تهدف الى تنسيق وتوحيد مواقف الفئات والطبقات الاجتماعية كمقدمة لا بد منها لتحقيق السيادة، وذلك من خلال فاعلية الحزب " المثقف الجمعي " وقدرته على حشد وتعبئة كل اصحاب المصلحة في التغيير تحت قيادته، وذلك لأنه يحمل لواء الاصلاح والتغيير، ويسعى لنشر اليات هيمنته الثقافية والسياسية على كامل المجتمع. هكذا يرى غرامشي على غرار ابن خلدون ان المطاولة الثقافية هي أساس وشروط المطاولة السياسية. وطبعا لا يمكن فهم موقف غرامشي بإعطائه اهمية أساسية للمستوى الايديولوجي في البنية الاجتماعية – الاقتصادية من دون ربط ذلك بالظروف التاريخية التي كانت سائدة أنذاك في أوربا الغربية بفعل ابتعاد أفق الثورة الاجتماعية. فقد اعتقد غرامشي أن المشكلات " الثقافية " هي مشكلات ذات أهمية خاصة في مراحل تتلو النشاط الثوري، كما في أوربا 1815، ثم ثانية بعد عام 1921. ويقول إنه في مثل هذه الاوقات لا تكون هنالك معارك مباشرة بين الطبقات، ويتحول الصراع الطبقي الى " حرب مواقع "، وتصبح " الجبهة الثقافية " هي الميدان الرئيسي للنزاع . لقد حاول غرامشي أن يطرح موضوع المجتمع المدني في إطار نظرية السيطرة والهيمنة الطبقية ويستخدمه لإعادة بناء استراتيجية الثورة الشيوعية أو التحررية. وبالنسبة لغرامشي سواء أكان ذلك في كتابه " الأمير الحديث " أو " دفاتر السجن " هناك مجالان رئيسيان يضمنان استقرار سيطرة البرجوازية ونظامها. المجال الأول هو مجال الدولة وما تملكه من أجهزة، وفيه تتحقق السيطرة المباشرة، أي السياسية، والمجال الثاني هو مجال المجتمع المدني وما يمثله من أحزاب ونقابات وجمعيات ووسائل إعلام ومدارس ومساجد أو كنائس إلخ، وفيه تتحقق وظيفة ثانية لا بد منها لبقاء أي نظام هي الهيمنة الايديولوجية والثقافية. ولذلك لا يكفي للوصول إلى السلطة في نظر غرامشي والاحتفاظ بها السيطرة على جهاز الدولة ولكن لا بد من تحقيق الهيمنة على المجتمع، ولا يتم ذلك إلا من خلال منظمات المجتمع المدني وعبر العمل الثقافي بالدرجة الرئيسية. وفي هذا التحليل يبلور غرامشي للحزب الشيوعي الطامح إلى السيطرة استراتيجية جديدة تقول إن من الممكن البدء في معركة التغيير الاجتماعي المنشود، أي الشيوعي، من استراتيجية تركز على العمل على مستوى المجتمع المدني وتعبئة المثقفين لكسب معركة الهيمنة الايديولوجية التي ستلعب دورا كبيرا في مساعدة الحزب على عبور الخطوة الثانية وهي السيطرة على جهاز الدولة. ففي مقابل استراتيجية الانقلاب العسكري أو شبه العسكري يقترح غرامشي عملية التربية والتعبئة الشاملة للمجتمع، أي السيطرة التدريجية والفكرية على الأطر التي تنظم علاقاته اليومية. ففي منظور غرامشي المجتمع المدني هو المجال الذي تتجلى فيه وظيفة الهيمنة الاجتماعية مقابل المجتمع السياسي أو الدولة الذي تتجلى فيه وتتحقق وظيفة السيطرة أو القيادة السياسية المباشرة. ولأن الهيمنة مرتبطة بالايديولوجية فإن المثقفين هم أداتها. ومن هنا جاءت حاجة غرامشي لإعادة تعريف المثقف وتحليل دوره والرهان الكبير الذي وضعه عليه في التحويل الاجتماعي. لكن المراهنة على المجتمع المدني لم تلغ عند غرامشي دور الدولة ولا أهمية السيطرة عليها. فالعمل في إطار المجتمع المدني هو جزء من العمل في إطار الدولة وسياسة التحويل الدولوية. لذلك لا قيمة للمثقف عند غرامشي ولا ضمانة لفاعليته إلا إذا كان عضويا، أي إذا ارتبط بمشروع طبقة سياسي، تماما كما أن الهيمنة لا قيمة لها إلا كجزء أو مستوى من مستويات العمل لتحقيق السيطرة الاجتماعية. إنها ليست منافية للسياسة ولكن مكملة لها، وإن كانت متميزة عنها. فالمجتمع المدني والمجتمع السياسي أو الدولة يسيران جنبا إلى جنب ويجمع بينهما في كل نظام وحدة ديناميكية السيطرة الاجتماعية. إن قراءة اطروحات غرامشي بشأن المجتمع المدني ومقارنتها بأطروحات كل من هيغل وماركس تتيح القول بوجود اختلاف في مستويات النظر بالنسبة لماركس وهيغل من جهة وغرامشي من جهة ثانية. يرى هيغل وماركس في " المجتمع المدني " بمعنى المجتمع المدني لطبقات اجتماعية كما في مجتمع برجوازي، أي أن تفكيرهما ينصب على مفهوم المجتمع المدني بعلاقته بالبنية التحتية، أي القاعدة الاقتصادية، أي العلاقات الناشئة في هذا المجال/الحقل الاقتصادي. أما غرامشي فقدم مفهوم " المجتمع المدني " ضمن اشكالية سياسية وفكرية هامة هي " الهيمنة"، وحلل مفهوم المجتمع المدني في علاقته بالبنية الفوقية، وهذا هو عنصر الاختلاف، الذي نراه جوهريا وهاما. إن فكرة غرامشي عن المجتمع المدني انما لها معنى محدد في اطار فكره ذاته، أي أنه مجتمع مدني كمجال لتحقيق مشروع تاريخي معين. وبالتالي فإن هذا يعتبر امرا يتعدى الاشكال المحددة لمفاهيم طبيعة السلطة، عسفها، مقاومة عسف السلطة أو ما شابه. المجتمع المدني، بحسب غرامشي، يمثل مجموع العضويات أو الكيانات الخاصة التي تمكن المجتمع المدني من أن يعبر عن وظائف الهيمنة. ويعني ذلك أن غرامشي يريد، وبمساعدة مفهوم المجتمع المدني، أن يحدد مضمون الهيمنة السياسية والثقافية لطبقة اجتماعية محددة (أو إئتلاف طبقي) في عموم المجتمع. إن مفهوم الهيمنة مفهوم نظري يشير الى الطريقة التي يتم بواسطتها، إبراز مصالح المجتمع ككل، وكذلك طريقة تنظيم القبول الاجتماعي بهذا الاتجاه. الهيمنة، إذن، ذات علاقة بالمجتمع المدني في حين أن السيطرة (القسر) عائد للدولة، أي للمجتمع السياسي. يقول غرامشي : نستطيع الان أن نحدد مستويين رئيسين من البنى الفوقية – احدهما يمكن أن يعرف باسم " المجتمع المدني، وهو مجموع الاجهزة المعروفة عموما باسم " الحاضنة "، والثاني هو " المجتمع السياسي " أو الدولة. وهذان المستويان يقابلان وظيفة " الهيمنة " التي تمارسها الجماعة المسيطرة عبر المجتمع كله من جهة ووظيفة " السيطرة المباشرة " التي تمارسها الدولة. تبنى الهيمنة، كما يعاد انتاجها، ضمن شبكة من المؤسسات يسميها غرامشي بالمجتمع المدني تميزا لها عن الجانب القمعي للدولة. المجتمع المدني، إذن، هو تلك التنظيمات ذات الطابع غير الحكومي : النقابات، المدرسة، الاحزاب .... الخ، وهذه تنظيمات طوعية تفعل فعلها عن طريق الاقناع أي من خلال الايديولوجيا. وبخلاف هذه التنظيمات، تشكل مؤسسات الدولة : الادارات، الجيش، الشرطة، القضاء، ما يسمى بالمجتمع السياسي، الذي يفعل فعله عن طريق القهر (السيطرة). لابد أن يكون مفهوما، منعا لأي التباس، الاشارة الى أن المقارنة ما بين الثنائي الدولة/ المجتمع، أو استخدام ثنائي مشابهة كالقوة/القبول، لا يعني اننا نقصد التلميح الى أن هناك أجهزة دولة قمعية بشكل خالص، وان الباقي هو أجهزة ايديولوجية خالصة، ولا أن بالامكان تركيز الصراع الطبقي ضد الدولة بشكل رئيسي، في هذا الجانب أو ذاك. على العكس من ذلك يتعين التأكيد على حقيقة مهمة وهي أن لكل بنية دولة وظيفتها القمعية ووظيفتها الايديولوجية، إلا أن هناك بعض البنى التي تكون قمعية أكثر من غيرها، وبعض البنى التي تكون بالمقابل أكثر ايديولوجية من غيرها. المرحلة الرابعة لاستخدام مفهوم المجتمع المدني وتشمل العقدين الأخيرين من القرن العشرين والأن، التي شهدت اعادة اكتشافه من تراث غرامشي لكن بعد تنقيته من بعض القضايا التي كانت موضع سجالات ساخنة خلال المراحل السابقة، بحيث لا يحتفظ منه إلا بفكرة المنظمات والهيئات والمؤسسات الاجتماعية الخاصة التي تعمل إلى جانب الدولة لكن ليس تحت إمرتها على تنظيم المجتمع وتنشيطه وتحقيق الاتساق فيه. وبهذا المعنى فالمقصود بالمجتمع المدني كما يستخدم اليوم تلك الشبكة الواسعة من المنظمات التي طورتها المجتمعات الحديثة في تاريخها الطويل والتي ترفد عمل الدولة. وإذا شبهنا الدولة بالعمود الفقري فالمجتمع المدني هو كل تلك الخلايا التي تتكون منها الأعضاء والتي ليس للجسم الاجتماعي حياة من دونها. فليس هناك أي شكل من العداء بينهما ولا اختلاف في طبيعة الوظائف وإن كان هناك اختلاف في الأدوار. ومن المفيد التذكير هنا أن الاستخدام المعاصر لمفهوم المجتمع المدني قد مر هو نفسه بثلاث فترات رئيسية. الفترة الأولى هي فترة الانفتاح على المجتمع المدني من قبل الأحزاب والقوى والنظم السياسية بهدف ضخ دم جديد في السياسة وإضفاء طابع شعبي عليها بدأت تفقده مع بقرطتها وتقنرطتها. وقد تمثل ذلك بإدخال عناصر أو مسؤولين في حركات إنسانية وتنظيمات اجتماعية خيرية في التشكيلات الوزارية على سبيل تقريب السياسة من الفئات النشيطة في المجتمع ومن الجمهور الواسع الذي عف عنها في الوقت نفسه. أما الفترة الثانية فهي فترة التعامل مع المجتمع المدني بوصفه منظمات مستقلة موازية للدولة ومشاركة في تحقيق الكثير من المهام التي تهم هذه الأخيرة بالتراجع عنها. وهذا المفهوم يتوافق مع انتشار مفهوم العولمة والانتقال نحو مجتمع يحكم نفسه بنفسه ويتحمل هو ذاته مسؤولية إدارة معظم شؤونه الأساسية. وقد استخدمت " الدول الديمقراطية " مفهوم المجتمع المدني في هذه الحالة للتغطية على عجزها المتزايد عن الايفاء بالوعود التي كانت قد قطعتها عن نفسها وتبرير الانسحاب من ميادين نشاط بقيت لفترة طويلة مرتبطة بها لكنها أصبحت مكلفة، ولا يتفق الالتزام بالاستمرار في تلبيتها على حساب الدولة مع متطلبات المنافسة التجارية الكبيرة التي يبعثها الاندراج في سوق عالمية واحدة والتنافس على التخفيض الأقصى لتكاليف الانتاج. أما الفترة الثالثة فهي فترة طفرة المجتمع المدني إلى قطب قائم بذاته ومركز لقيادة وسلطة اجتماعية، على مستوى التنظيم العالمي بشكل خاص، في مواجهة القطب الذي تمثله الدولة-الدول المتآلفة في إطار سياسات العولمة والنازعة إلى الخضوع بشكل أكبر فأكبر في منطق عملها للحسابات التجارية والاقتصادية. وشيئا فشيئا يتكون في موازاة هذا القطب الدولوي والقيادة الرسمية للعالم، تآلف المنظمات غير الحكومية والاجتماعية التي تتصدى لهذه الحسابات الاقتصادية والتجارية من منطلق إعطاء الأولوية للحسابات الاجتماعية ولتأكيد قيم العدالة والمساواة بين الكتل البشرية. وفي هذه الحالة يطمح المجتمع المدني إلى أن يكون أداة نظرية لبلورة سياسة عالمية وبالتالي أيضا وطنية بديلة تستند إلى مجموعة من القيم والمعايير التي ينزع السوق الرأسمالي إلى تدميرها أو التجاوز عنها. لكن الأمر لم يلبث حتى تجاوز ذلك وجعل من المنظمات غير الحكومية، المحلية والدولية، فاعلا رئيسيا إلى جانب الحكومات في تسيير الشؤؤن الوطنية والعالمية. وقد تبلور مفهوم المنظمات غير الحكومية من خلال الوضعية القانونية التي كرستها لهذه المنظمات الأمم المتحدة، والدور النشيط الذي أصبحت توليه لها لحل العديد من المشكلات والتحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. حتى ساد الاعتقاد اليوم أن هذه المنظمات هي الملجأ الوحيد في تنفيذ المشاريع الانسانية الخيرية وغير الخيرية في مواجهة عجز الدولة وشلل أجهزتها بسبب سيطرة البيرقراطية عليها. ومن الواضح أن الحالة ليست كذلك في البلاد النامية. فلا ينبع الحديث عن المجتمع المدني والدعوة لإعطاء المؤسسات الاجتماعية مسؤولياتها في العمل الاجتماعي من نضح الدولة ولا من تطويرها لفكرتها عن دورها الانجع في المساهمة في تطوير النظام الاجتماعي، ولا عن نضج المجتمع وتوسع دائرة العمل والمبادرة والتنظيم عند أفراده ونشوء جمعيات ومؤسسات أهلية قادرة على التدخل لمعالجة الكثير من القضايا والمشكلات الاجتماعية ولكن ربما بالعكس من ذلك تماما. إن منبع الحديث المتزايد عن المجتمع المدني هو انهيار الدولة وفقدانها لأي دور مركزي على الطريقة الكلاسيكية، أي بناء الأمة، وعجزها عن بلورة دور جديد لها يتماشى مع حاجات المجتمع الذي يتطور بمعزل عنها منذ فترة طويلة في تصوراته ومطالبه. كما هو تفكك المجتمع نفسه وافتقاره إلى أي مؤسسات تسمح له بممارسة دوره أو تأكيد وجوده في وجه السلطة المتحولة إلى سلطة أصحاب المصالح الخاصة وفي وجه الفوضى والدمار الذين يتهددان مصيره ومستقبله. الأن، وقد صار لدينا مجموعة من الاطروحات، على تنوعها، تسمح لنا بتعيين حدود المجتمع المدني من خلال تعريفه بأنه : عبارة عن مجموعة من المؤسسات التي تقع خارج شبكة سلطة الدولة تتيح للقوى الاجتماعية العاملة في مجالات الاقتصاد والحياة الثقافية والايديولوجيا والسياسة أن تنظم نفسها بشكل حر بحيث تستطيع أن تلعب دورها في التطور الاجتماعي. انه مفهوم يتجاوز مجرد التغيير السياسي كما يعتبر أن ضمان وجود وحرية تلك المؤسسات الاهلية، هو شرط أساسي لفعالية الديمقراطية السياسية نفسها إذا تابعنا التطور التاريخي للرأسمالية وكذا تطور مؤسسات المجتمع المدني نستطيع أن نقول أن تلك المؤسسات كانت ضرورية من أجل تكريس استقلالية المجال الاقتصادي والانشطة التي يتجلى من خلالها الاقتصاد الرأسمالي في مواجهة السلطة. لم تقف سيرورة التاريخ عند هذه اللحظة التاريخية الاولى في تكوين الرأسمالية بل تعرضت هذه السيرورة الى تطور متناقض نتج عنه تبلور طبقات اجتماعية جديدة، اضافة للطبقة الصاعدة أنذاك – البرجوازية -. هكذا نشأت البروليتاريا كطبقة جديدة وجرت تغيرات عاصفة في مضمون طبقات قديمة أخرى تجلّت في تحولها الى منتجين سلعيين صغار يخضعون لمنطق قوانين التشكيلة الرأسمالية. وبذلك تم بسط العلاقات السلعية الرأسمالية وهيمنتها واخضاعها كافة العلاقات الاخرى لمنطقها. هكذا، إذن، بدأت تتبلور مؤسسات أهلية تخرج عن إطار إدارة شؤون رأس المال، تبحث عن حلول وسطى بين فئات البرجوازية نفسها من أجل تكريس السلطة السياسية المشتركة لها. أدى تطور الرأسمالية الى تطور القطبين الرئيسين : البرجوازية والبروليتاريا، وقد ترتب على ذلك مجموعة من النتائج أهمها بروز البروليتاريا كقوة مستقلة، وكطرف رئيسي في الصراعات مع البرجوازية. وبدأت تنادي بنظام اجتماعي اخر، لا طبقي في الجوهر. وهكذا فرض ميزان القوى الجديد على النظام الرأسمالي ضرورة العمل وفقا لمبدأ التعددية الحزبية والانتخابات العامة. إن هذه الصيغة من الديمقراطية السياسية، التي كانت محصلة للصراع الدائر بين القطبين البرجوازية/البروليتاريا، وتنامي كفاح الاخيرة واشتداد عودها قد أدخل تناقضا جديدا في عمل القوانين الناظمة لاشتغال التشكل الراسمالي، ترتبت عليه نتائج بالغة الاهمية. أهم تلك النتائج يتجلى ببحث أطراف التناقض الاساسي عن مساومة تنتج حلا وسطا تاريخيا بين رأس المال والعمل. المبحث الثالث مفهوم المجتمع المدني العالمي بداية، لابد من الاشارة الى أن تعبير "المجتمع المدني العالمي"- برز مثله مثل تعبير "المجتمع المدني" ذاته- مجددا في سياق طائفة من الاوضاع على الصعيدين السياسي والفكري يمكن الاشارة الى أهمها : 1. التحولات التي شهدها العالم عشية انهيار انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي وما رافقه من تداعيات من اهمها انهيار نظام القطبية الثنائية واستحقاقاته. لقد دشنت المرحلة الجديدة في بداياته الامال بانحسار التهديدات التي رافقت نظام القطبية الثنائية وسباق التسلح والحروب الباردة ....الخ. وقادت الاوضاع الجديدة الى تنامي الدعوات، من مواقع فكرية مختلفة، بضرورة طرح تصورات وطرق جديدة لعلاج مشكلات " العالم الجديد " وتطوير بنياته. 2. ظاهرة العولمة وخطابها. ودون الدخول في تفاصيل اشكالية العولمة لأنها خارج هذه المساهمة، الا أنه يمكن القول بعدم وجود خطاب موحد حول هذه الظاهرة بل يلاحظ تنوع الخطابات المطروحة. وباختصار يمكن تمييز اتجاهين رئيسيين دون أن يعني ذلك اهمال اتجاهات اخرى لم تتبلور بصيغتها النهائية بسبب عدم تبلور الظاهرة ذاتها لأسباب معروفة. - الاتجاه الاول يرى في العولمة باعتبارها سيرورة تهدف الى مد نطاق السياسات والفعاليات التي قادت إلى الرخاء والسلام في " الغرب " أو " الشمال " إلى العالم كله، عبر طائفة من الاتفاقيات الدولية والتعديلات الهيكلية المحلية التي تطلق قوى السوق، وتدفع إلى تحسين الإنتاجية، والإفادة الأفضل من الموارد، وتشجع المزيد من التطور التكنولوجي، وتحسن من التنظيم الاجتماعي. - أما الاتجاه الثاني فيطرح بالمقابل عولمة مضادة تقوم على إدراك وترجمة المسئولية المباشرة للعالم المتطور عن اقتلاع الفقر، وذلك من خلال التوقف عن الاستغلال المالي لـ " العالم الثالث "، وتعويضه عن فترات الاستعمار والاستنزاف المتعاظم للثروات الطبيعية، وتصفية المديونية، والاعتراف بحاجة هذا" العالم " لانتهاج طرقه الخاصة بالتطور والنمو والتقدم الاقتصادي الاجتماعي، ومنحه معاملة تمييزية تنحاز لإطلاق قواه المنتجة، وتعفيه من منافسة يستحيل عليه مقابلتها، وتوفر له الموارد اللازمة لانطلاقه الاقتصادي والاجتماعي. وفي إطار التطلعات نفسها، طرح آخرون مشروع بناء وتطوير "المجتمع المدني العالمي " الذي توفر بالفعل عناصر حقيقية لنشأته ونموه. وبسبب اختلاف المرجعيات النظرية والتاريخية فإن النظرة الى " المجتمع المدني العالمي " تختلف كذلك. ويمكن أن نلاحظ هنا مقاربات مختلفة : المقاربة الاولى تقوم على اساس النظر الى" المجتمع المدني العالمي " باعتباره جزءً من تجليات مشروع العولمة، وباعتباره مستوى مواكبا للمستوى الاقتصادي لهذه الظاهرة. واذا دفعنا هذه المقاربة الى نهايتها المنطقية أمكننا أن نستنتج ان هذا الفهم ينطلق من التبشير الليبرالي الجديد بنظام سياسي جديد للبشرية. فالحركة الحرة لرءوس الأموال والتكنولوجيا، وأنماط التنظيم والإنتاج المشترك أو " المصنع العالمي " يخترق ويتعارض مع البنية القومية للتنظيم السياسي للعالم الموروث من القرن السابع عشر (بالنسبة لأوربا الغربية). ويحتاج الاقتصاد المعولم إلى بنية سياسية تناسبه، ربما تجسدت يوما من الأيام في حكومة عالمية. وحيث إن التنظيم القومي للعالم نشأ على قاعدة عملية بناء الأمة، فالحكومة العالمية يمكن أن تنشأ على قاعدة اجتماعية وبشرية عابرة للحدود القومية وهي "المجتمع المدني العالمي". أما المقاربة الثانية وهي مناقضة للمقاربة الاولى فتقوم على النظر الى المجتمع المدني العالمي باعتباره جزء من عملية أوسع، هي النضال المشترك من أجل العدالة الدولية والسلام العالمي. وبحسب هذه المقاربة يقوم المجتمع المدني بدور القاطرة لعملية التحويل الديمقراطي في الداخل عبر النضال الضروري لاستلهام ووضع إستراتيجيات ورؤى جديدة للتنمية والتطور. كما يقوم بدور الجسم الحي الذي يخوض النضال من أجل نشأة بيئة سياسية واقتصادية دولية مواكبة أو مناسبة للتنمية البشرية ذات الوجه الإنساني في العالم الثالث. وبحسب مؤيدي هذه المقاربة وانصارها، فقد تجسد هذا الواقع في احداث يوم 15 فبراير 2003 ، اذ تجلى " المجتمع المدني العالمي "، بأعظم معانيه ودلالاته، في المسيرات الحاشدة والمتزامنة في نحو 6000 مدينة، وأكثر من 70 دولة في العالم، لمناهضة الحرب الأمريكية المزمعة ضد العراق. وقد فرض هذا اليوم نفسه حتى على أكثر المتشككين في مفهوم " المجتمع المدني العالمي "، باعتباره يوما فريدا في تاريخ العالم، وظاهرة لا يضاهيها شيء في تاريخ البشرية أو واقعها الحديث. استنادا الى الملاحظات السابقة ينطرح السؤال الاساسي في موضوعنا هنا وهو : ما هو إذن المجتمع المدني العالمي؟ قد تتنوع التعاريف انطلاقا من الخلفيات والمرجعيات الفكرية والنظرية ولكننا نستطيع نفرز ابرز علائم المجتمع المدني العالمي انطلاقا من الركائز التالية : أولا: إنه بمثابة فضاء أو حقل للنشاطية أو الكفاحية المنطلقة من الإيمان بقيم عالمية، وبوحدة المصير البشري، على الأقل بالنسبة لموضوعات أو قضايا حاسمة مثل السلام والعدالة والتنمية والبيئة وحقوق الإنسان. ثانيا: كما يمكن النظر إليه أيضا باعتبار ذلك النسيج من الروابط الكفاحية التي تنشأ على قاعدة الإيمان بالمساواة والمسئولية المشتركة والحاجة إلى علاقات عالمية لا تقوم على التسلط أو القوة والامتياز. ثالثا: ومن حيث الفاعلين في المجتمع المدني العالمي، فيمكن القول أنهم أولئك الذين يمدّون نشاطهم في الدفاع عن قيم مدنية إلى الساحة العالمية، ويشملون الجمعيات والروابط والنقابات والهيئات المهنية والمجالس النيابية والمنتديات الفكرية والشبكات الاتصالية والهيئات الدينية، بغض النظر عما إذا كانت صلاحياتها قومية ذات امتداد عالمي أو عالمية بالأصل، هذا فضلا عن الجمهور العام المؤمن بهذه القيم والمرتبط بتلك التجمعات. ونظرا لأن مفهوم "المجتمع المدني العالمي" قد نما من رحم النشاطات والثقافة المدنية القومية، ثم أخذ يمد هذه النشاطات على مستوى عالمي، أو كمستوى نضالي عالمي يشتق طاقته وعناصره البشرية من مختلف القوميات، وينظم عمله عبر روابط واتحادات عالمية أو متعددة الجنسيات، أو عبر تقنيات الحركة الاجتماعية، فإنه لابد من التساؤل عن العناصر الاساسية التي جعلت ولادة المجتمع المدني العالمي ممكنة ؟ وفي مسعى الاجابة على هذا السؤال يمكن بلورة ثلاثة عناصر أساسية وهي: أ - الثقافة المدنية العالمية التي بدأت تتبلور منذ الحرب العالمية الثانية بفضل نخبة مدولة تكونت في طيف واسع من المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية. ولعبت المنظمات المتخصصة للأمم المتحدة (منظمة اليونسكو، منظمات اخرى مثل الأغذية والزراعة والصحة العالمية)، وفى مجال التنمية والتجارة (منظمات مثل الأمم المتحدة للتنمية الفنية والأونكتاد) دورا مبدعا على الصعيد الفكري، وكذلك المجلس الاقتصادي والاجتماعي. أما فى مجال حقوق الإنسان والبيئة والمرأة والأقليات فقد نشأت منظومة كاملة داخل الأمم المتحدة بدءا من اللجنة العامة وصولا إلى اللجان التعاهدية، وهكذا. غير أن دور الأمم المتحدة كان بالضرورة مقيدا بطابعها الحكومي. كما أن النخب الفكرية ذات الأفق العالمي- بغض النظر عن أصلها القومي- لم تكن ذات قدرات تواصلية كبيرة مع شعوبها ذاتها، وهو ما حرمها من بناء نفوذ واسع في بلادها، أو على المستوى العالمي. ولذلك تدفقت أفكارها عبر قنوات حكومية دولية أو محلية. وبسبب تلك القيود وأوجه النقص نشأت أو نشطت أعداد مدهشة من المنظمات غير الحكومية العالمية أو متعددة الجنسية، بدءا من منظمات العلماء واتحادات المهنيين، مرورا بجمعيات الدفاع مثل "منظمة العفو الدولية"، وصولا إلى المنابر الفكرية متعددة الجنسيات في محاولة للقيام بدور جماهيري، أو يخاطب جماهير العالم وحكوماته. وفي واقع الحال فإن الجهد الأساسي الذي قامت به هذه المنظمات غير الحكومية لم يتعلق بإنشاء أهداف أو قيم مدنية، وإنما بترويجها بين أوساط شعبية مختلفة، والتعبئة المنظمة لها، والمطالبة بتحسين التشريعات وإحكام آليات العمل. وجاءت مرحلة ثالثة نمت فيها أدوار المثقفين والنشطاء من " العالم الثالث " على هامش المنظمات غير الحكومية الدولية في البداية، ثم عبر منظماتهم القومية أو الإقليمية الخاصة بهم. وحملت تلك الموجة الأخيرة قدرا كبيرا من التجديد الفكري والقدرات التنظيمية، ربما بحكم أصولها ونشأتها في صفوف حركات وأحزاب اليسار التي كانت تتعرض لتفكك واسع في مختلف بلاد " العالم الثالث "، وهو ما أتاحها للنضال المدني. ب- الأطر والأوعية الاتصالية الجديدة. وفي الوقت نفسه أتاحت تكنولوجيا المواصلات والاتصال العصرية فرصة تطوير قنوات وأوعية أخرى لتحل جزئيا محل الأحزاب التقليدية في الفضاء العام. فالأطر الجمعياتية ومجالس المدن والمقاطعات والأحياء والشبكات الاتصالية المكونة في الفضاء الإلكتروني وروابط الأصدقاء متعددي الجنسيات والاتحادات المهنية والمؤتمرات والمعسكرات الشبابية والعالمية والمنتديات الثقافية والفكرية والحركات الاجتماعية - صارت أكثر أهمية، ليس فقط من الأحزاب السياسية، بل ومن النقابات والحركات العمالية التقليدية. وتبين حصيلة التجربة أن تلك الأوعية صارت أكثر قدرة على استيعاب طاقات الأجيال الجديدة في أوربا وأمريكا الشمالية، وبدرجة أقل في " العالم الثالث، لأسباب عديدة: · فهي أنسب لأجيال أقل اهتماما بالأيديولوجيات وبالثقافة السياسية من آبائها، وأكثر تمتعا بالإنجازات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية. · ثم إن تلك الأوعية أكثر قربا وتلامسا مع الواقع المعاش. · وهي أيضا أكثر ديمقراطية وأقل تراتيبية، ولا تستلزم انضباطا أو تدريبا حزبيا من النمط التقليدي للعمل في الفضاء العام.وهي فوق ذلك أكثر قابلية للإشباع النفسي بحكم سرعة إثمار العمل المدني المباشر. · ولا بد من الإشارة المركزة من جديد إلى أثر الفضاء الإلكتروني في التعارف وبناء الشبكات الثابتة والمتحركة والاتصال ونشر وترويج الشعارات والمواقف. ج- أما العامل الثالث الذي أسرع بإنضاج المجتمع المدني العالمي فهو العامل الاقتصادي. ويشمل هذا العامل جوانب مختلفة. فالتطور العام في التكوين الاقتصادي الحديث صار يتحيز كثيرا لصالح الأنشطة الخدمية ذات الدخل المرتفع ووقت العمل الأقل. وقد مكّن هذا التحول ملايين الناس من السفر والاحتكاك بثقافات أخرى، وكذلك بتخصيص وقت للفضاء العام دون الشعور بالملل، ودون حاجة لهذا المستوى من الحماسة التعصبية التي كانت تميز العمل السياسي في الماضي، وربما لا زالت تستلزمه في كثرة من بلاد العالم الثالث. والواقع أن التطور نفسه في طبيعة العمل في المجتمعات المتقدمة، وفي طبيعة أنشطة العمل صار يتحيز للسلام بين الشعوب. فلدينا بطبيعة الحال حالة الهجرة الدولية (130 مليون مواطن في أوربا الغربية وحدها). وبينما تثير تلك القضية مشكلات لا حد لها، فهي تفرض أيضا قدرا من حتمية التعايش، بما في ذلك الزواج وتكوين الأسر متعددة الجنسيات أو الخلفيات الثقافية. ومن ناحية أخرى فإن التطور المذهل في أنشطة السياحة الدولية يقوم على فكرة السلام المديد، ويتطلب قدرا عاليا من الاستقرار في البيئة الدولية، وينشر بذاته رواجا للثقافة المدنية. المجتمع المدني العالمي : تعدد التفسيرات جرت الاشارة في الملاحظات السابقة الى العوامل المباشرة وراء نشوء المجتمع المدني العالمي، ولكن السؤال المهم الاخر هو كيف نفهمه في اطار السياق العريض للعلاقات السياسية والاجتماعية على المستوى العالمي. هناك محاولات مختلفة لشرح وتفسير نشوء المجتمع المدني العالمي ومن بينها : 1. نظرية الاعتماد المتبادل التي سادت لفترة طويلة باعتبارها تمثل محاولة لشرح مقبول لنشوء المجتمع المدني العالمي. وتنبثق هذه النظرية عن (النموذج الأساسي) الوظيفي كبديل لشرح العلاقات الدولية في النظرية الكلاسيكية للعلاقات الدولية باعتبارها علاقات قوة. من هذا المنظور فالعالم يتطور تبعا لنبوءة المدرسة الوظيفية التي ترى أن الاقتصاد والروابط العالمية الجديدة تحتم تحرك النظام العالمي كنظام وظيفي في اتجاه بناء السلام بين الشعوب وتقليص أو إلغاء الحاجة إلى الحروب، حيث تتعلق مصالح الدول والشعوب بالتعاون والاعتماد المتبادل وتصير رفاهية كل شعب معتمدة على الشعوب الأخرى. ولكن تلك النظرة المتفائلة للعلاقات الدولية لا تشرح أو تفسر لنا مظاهر استعراض القوة والحروب الصغيرة والكبيرة. ولذلك حاول الوظيفيون الجدد أن يعدلوا هذا الإطار النظري لإدخال علاقات القوة إلى صلب النظرية، فأكدوا أن الاعتماد المتبادل نفسه ليس رفاهية وسلاما بحتا، وإنما هو أيضا علاقة قوة، إذ تختلف درجة حساسية كل اقتصاد نحو الآخر أو نحو الاقتصاد العالمي. فالعملات مثلا ليست بالقوة ذاتها، وتتأثر عملات معينة- أكثر من عملات أخرى- بالهزات في الاقتصاد العالمي. والأهم هو أن تعرُّض أو انكشاف اقتصاد ما للهزات أو لسلوك اقتصاديات أخرى ليس على الدرجة نفسها. وتستطيع دول معينة إحداث ضرر أكبر بالآخرين نظرا لانكشافهم بدرجة أكبر أمامها. وبهذا المعنى فهناك تبعية متبادلة ومصالح متشابكة بين الجماعات والشعوب، ولكن هناك أيضا فجوات وعلاقات قوة. ومن هذا المنظور أيضا فالعولمة ليست إلا تعبير خاص عن تمدد واتساع الاعتماد المتبادل وتطور العالم كنظام وظيفي جديد أو مختلف. والمجتمع المدني العالمي في هذا الشرح هو الجانب الاجتماعي من العولمة التي تتجلى بأشكال أخرى. ويصطدم هذا الشرح مع أحد أهم صور النضال أو دوافع أو "مهام" المجتمع المدني العالمي، وهو مناهضة العولمة بصيغتها النيوليبرالية. فأقوى مظاهر تحرك المجتمع المدني العالمي قبل مظاهرات ومسيرات السلام الحالية تجسد في المظاهرات الصاخبة ضد العولمة الرأسمالية، بدءا من "سياتل" و"نجازاكي" و"روما" حتى "واشنطن" خلال عام 2002. وتبدو حركة مناهضة العولمة كنموذج مثالي للحركات الاجتماعية العالمية التي تأخذ بألباب الأجيال الشابة في العالم. وهي في الوقت نفسه مظهر مميز لكفاحية المجتمع المدني العالمي. ولا شك أن هذا النضال ضد هذا النوع من العولمة ثم ضد التهديد بالحرب يفضح حقيقة أن العلاقات الدولية الرسمية لا تزال تقوم على القوة وعلى عدم التكافؤ في القوة، وخصوصا في ظل " نظام القطبية الاحادية " الراهن. 2. ومن جانبهم يشرح الماركسيون الجدد واليسار الجديد بصورة عامة منطق النضال ضد العولمة باعتباره شكلا خاصا من النضال الطبقي ضد الرأسمالية المعولمة. وبهذا المعنى، فالمجتمع المدني العالمي هو نوع من التحالف الأممي ضد الرأسمالية المعولمة في طورها الليبرالي الجديد. ويؤكد هذا الشرح أن القوى المدنية الجديدة التي تناضل ضد العولمة الاقتصادية تتخذ المنظمات والرموز الكبرى للعولمة الاقتصادية هدفا كبيرا لنضالها. وتدرك تلك القوى أن تصفية استغلال أو إهمال " العالم الثالث " هو بنفس الوقت كفاح من أجل مصالحها في الحصول على تعليم وخدمات صحية ورفاهية أفضل. وأن النضال ضد الحرب هو أيضا كفاح من أجل تحررها من الاستغلال الأشد المصاحب لصعود ما يسمى بالليبرالية الجديدة. 3. التفسير التكنولوجي. يشير البعض إلى السياق الذي انبثقت فيه عملية النضال ضد العولمة كثورة كونية ذات أبعاد متعددة وخاصة البعد المعرفي والتكنولوجي الاتصالي. في هذا الإطار قد يمكننا فهم نشوء المجتمع المدني العالمي وتبلوره أو نضوجه النسبي، كأحد تجليات الثورة التكنولوجية الراهنة، بما صاحبها من " فورة ثقافية " على المستوى الكوني. ويبدو أن العامل المحرك من وجهة النظر هذه هو سقوط "النماذج الأساسية الكبرى"، وبروز اهتمامات وتطلعات عالمية جديدة من ناحية ثانية. وبوسعنا أن نرى في هذه النظرية صياغة مستحدثة لفكرة "القرية الكونية" رغم التباس هذا المفهوم. وتعبر تلك الفكرة أساسا عن الضمير أو الوعي الليبرالي الذي بشر مبكرا بالنتائج الإيجابية للثورة الاتصالية من خلال يوتوبيا القرية الكونية. فالفكرة لا تقول بسقوط القوميات أو نهاية المرحلة القومية، ولكنها ترى وعيا جديدا يخرج من " شرنقة " الدولة القومية، ويتطلع لأنماط من التواصل والانتماء عابر للحدود القومية، بل وللحدود المرسومة بين الثقافات. فكأن " القرية الكونية " تتجاوز المفهوم الاتصالي الذي يلغي المسافات ويعكس بروز مواطنية جديدة عالمية أو كونية. ومنعا للالتباس، لابد من الاشارة الى ان هذه " القرية العالمية " ليست " مدينة فاضلة " تضمن المساواة بين الجميع بل انها في واقع الحال تحتوي على كل التناقضات الفعلية السائدة على الصعيد العالمي، بما في ذلك حالة الاستقطاب المعولم الذي يرافقه تراكم الفقر من جهة وتراكم الثروة من جهة اخرى. 4. وقد نجد تعبيرا خاصا عن تلك الظاهرة نفسها في نظرية أخرى تتفرع عن " نبوءة ما بعد الحداثة ". فثورة الوعي ضد "النماذج الأساسية" قد تنتهي إلى اضمحلال أو على الأقل خفوت الدولة القومية كإطار للفعاليات والنشاطات الاجتماعية. ومن هنا تبرز فكرة " ما بعد الحداثة " القائلة بما بعد الدولة القومية. وتعكس تلك الفكرة أيضا الثورة على النمط الكلاسيكي للسياسة أو ظهور منظور "ما بعد السياسة". فالسياسة التقليدية ركزت على "التدافع" والتنافس والتحزب، وخاصة في النسق الديمقراطي الغربي. بينما الممارسة التي تميز الأجيال الحالية تركز على الحاجة للتكافل والعمل المشترك والتحالفات الكبيرة العابرة للحدود بين الأيديولوجيات. 5. ويمكننا أن نشرح نشوء وتطور المجتمع المدني العالمي باعتباره "تمددا عالميا" لحركات اجتماعية أو سياسية غربية المنشأ أكثر منها "تحالفا" حقيقيا بين قطاعات وحركات اجتماعية متعددة الجنسيات. فالعناصر الأساسية اللازمة لنضوج المجتمع المدني العالمي تحققت في المجتمعات الغربية أو الصناعية المتقدمة أكثر مما تحققت في الأفق الكوني بذاته. ولكن هذا الشرح لا ينطلق من مفهوم المصلحة فحسب، بل من مفهوم الرؤية بصورة أكبر. لقد ثارت نضالات تاريخية كبرى انطلاقا من "رؤى" أكثر كثيرا من دافع المصلحة وخاصة إذا فهمنا هذا المصطلح الأخير من زاوية الطبقات وأنماط الإنتاج. فحركة السلام لم تكن تعبيرا عن مصالح طبقية أو اقتصادية مباشرة بل كانت تعبيرا عن رؤية مناهضة للحرب بذاتها ولما تسببه من آلام بشرية عميقة وواسعة النطاق. وكذا الامر بالنسبة لحركة حقوق الإنسان التي لم تكن تعبيرا عن دوافع طبقية أو سياسية مباشرة، بل كانت انعكاسا لالتزام فكري أو رؤية إنسانية عامة. المبحث الرابع الدولة – المجتمع السياسي/ بعض الاشكاليات المرتبطة بمضمون الدولة يسعى هذه المبحث لاعادة التفكير بطبيعة الدولة ومحاولة وضعها في مكانها الطبيعي ضمن التطور التاريخي الملموس. إن السبب في ذلك يكمن في الرد على بعض الاطروحات السائدة في فترات مختلفة حول حدوث قطيعة بين الدولة والمجتمع المدني. فحسب هذه الاطروحة تقدم لنا الدولة وكأنها فوق الطبقات الاجتماعية، أي تظهر كمحاولة للمصالحة بين الطبقات، أو باختصار شديد تقدم لنا " لابسة ثوب حيادها المبجل ". ولهذا فإن المطلوب انزالها من هذه العلياء ودراستها دراسة سليمة تكشف طبيعتها ووظائفها. فمن المعروف أن الرهان المكثف على الدولة، والتمركز من حولها، وتحويلها إلى مركز عبادة وتقديس منذ القرن التاسع عشر، في أوربا أولا ثم في جميع أنحاء العالم فيما بعد، قد نشأ بسبب الآمال والأوهام الكبيرة التي كانت تحيط بعمل هذه الدولة وقدراتها وإمكاناتها معا. فقد ساد الاعتقاد، منذ هيجل الذي نظر إلى الدولة القومية باعتبارها التعبير الأسمى عن وصول التاريخ إلى غاياته ومطابقة الوعي لذاته، حتى النظم الشمولية التي وجدت فيها الأداة المثلى للتحرر من جميع الإكراهات التاريخية والوصول بالمجتمعات إلى أعلى قمة في السيادة والتنمية والحرية. والعجيب في الأمر أن هذه الدولة التي بني ماركس نظريته في التحرر الانساني على فرضية تلاشيها الحتمي وإحلال إدارة الأشياء محل إدارة البشر (السياسة)، أي بمجتمع يقود شؤونه وينظمها بنفسه، سوف تصبح غاية في ذاتها في بعض النظم بقدر ما سوف تمثل إطار تنظيم " الطبقة " البيرقراطية الجديدة وأداة سيطرتها الرئيسية، وسوف تجعل من السياسة إدارة البشر بوصفهم أشياءا كما لم يحصل في أي حقبة أخرى. وبهدف الرد على هذه الأطروحات يتعين التأكيد على القضايا/ المبادئ التالية : · للدولة وظيفة سياسية شاملة تسعى من خلالها الى تحقيق ترابط مستويات الكل الإجتماعي وذلك بإعادة إنتاج التناقضات و " الأوضاع القائمة ". إذن يتعين عدم الاكتفاء بالفهم " التقليدي " للدولة – أداة قوة – بل على أنها "منظمة للهيمنة ". ويعني ذلك تعريف الدولة انطلاقا من دورها الإجتماعي والسياسي بالدرجة الأولى. الدولة، إذن، هي الهيئة المركزية التي يتعين عليها الحفاظ على وحدة وتماسك التشكيل الإجتماعي، والحفاض على الشروط الإجتماعية للإنتاج وبالتالي إعادة إنتاج الشروط الإجتماعية للإنتاج من دون " عوائق ". · يعني ذلك أن إعادة إنتاج هذه الأوضاع وتلك التناقضات يسير في اتجاه تحقيق مصالح الطبقة المسيطرة ( أو الائتلاف الطبقي المهيمن) داخل التشكيل الإجتماعي المحدد. · إن سلطة الدولة في المجتمعات الطبقية هي " لحظة " من التناقض الذي يعكس الصراع الطبقي السياسي وأطرافه ونتائجه. الدولة، إذن، على عكس ما يروج له ليست محايدة ولا حكماً بين القوى المتصارعة، كما تبدو ظاهرياً. وفي الواقع يجب النظر الى سلطة الدولة بكونها وحدة متناقضة. هذه الوحدة ممكنة، إذ أن أجهزة الدولة تمتلك تماسكاً داخليا خاصا بها ومستقلاً تجاه البنى الإقتصادية وكذلك تجاه الطبقات أو فئات الطبقة المسيطرة. هذه الملاحظة ضرورية إذ أنها تتحاشى جعل الدولة مجرد " شيء " أو " أداة " بيد القوى المسيطرة. · من الضروري في هذا المجال التذكير باستقلالية أجهزة الدولة ليست في استقلالها عن الطبقات المتصارعة، بل عن الفئات الطبقية المسيطرة. فاستقلال أجهزة الدولة لا يكون إلا في تبعيتها المباشرة للطبقة المسيطرة ككل. معنى هذا أن استقلالها النسبي يتيح لها ضبط تطور التناقضات الثانوية بين فئات الطبقة المسيطرة ومنعها من أن تنفجر بشكل يهدد علاقة السيطرة الطبقية نفسها حين تعجز فئة أو طبقة عن فرض هيمنتها الطبقية داخل الطبقة المسيطرة ( أو الائتلاف الطبقي). إن التدخل المباشر لأجهزة الدولة هو، إذن، لإنقاذ الوجود المسيطر للطبقة السائدة، بتحقيق الهيمنة الطبقية للفئة المهيمنة فيها، والتي تعجز، في ظروف تاريخية محددة، من فرض هيمنتها. في مثل هذه الظروف التاريخية يختفي الشكل " الديمقراطي " للممارسة السياسية للطبقة المسيطرة، ويبرز الشكل الدكتاتوري المباشر الذي يضمن المنطق نفسه لهذه الممارسة السياسية. فالعلاقة بين الديمقراطية والدكتاتورية هي إذن خاصة بالممارسة السياسية للطبقة المسيطرة. · للدولة وظيفة مركبة، أي أن لها أبعاداً أو مستويات إقتصادية، سياسية، إيديولوجية. ولإنجاز هذه الوظيفة المركبة يتعين انبثاق أجهزة الدولة ( المؤسسات والموظفين) والتي يناط بها إنجاز أهداف هذه الوظيفة الشاملة بمستوياتها المختلفة : - على المستوى الاقتصادي يتم التركيز على : أ. إعادة انتاج العلاقات الانتاجية، ب. إعادة انتاج قوة العمل، ج. إعادة انتاج تمايز الفرص بين الطبقات الاجتماعية. - على المستوى السياسي والايديولوجي يتم التركيز على : أ. إدارة الصراع لصالح حائزي سلطة الدولة، ب. إعادة إنتاج ايديولوجية حائزي السلطة واحتضانها، ج. تزيف وعي المبعدين عن حيازة السلطة. ثمة أبعاد جوهرية في أي بنية اجتماعية تكون أكثر أهمية من غيرها من الأبعاد، من حيث تأثيرها، وتحديدها لملامح وعمق وتوجه الصيرورة الإجتماعية لهذه البنية. تأتي أهميتها لهذه الصيرورة في أن طبيعتها، وأنماطها ومستوياتها وتوزيعها ذات علاقة مباشرة بمسائل الصراع الإجتماعي. من بين هذه الأبعاد الجوهرية هناك " بُعد السلطة السياسية ". إن الحديث عن السلطة السياسية في مستواها الأكثر تركيزاً هو حديث عن" الدولة " بوصفها التجسيد الرسمي للسلطة السياسية السائدة . ينطرح، إذن، وعلى الفور ذلك السؤال الحاسم : ما هي طبيعة العلاقة ما بين الطبقات الإجتماعية، المحددة أساساً وإعتباراً لموقعها ضمن البنية الإقتصادية، وما بين السلطة السياسية من خلال الدولة ؟ إن الإجابة على هذا السؤال تستحث ضرورة الحديث – ولو باختصار- عن مناهج دراسة السلطة السياسية. يعج الأدب السياسي الخاص بهذه الإشكالية بكثير من المناهج الساعية لتحديد طبيعة السلطة السياسية وبالتالي الإجابة على السؤال السابق. ومن الدخول في تفاصيل كثيرة نستطيع أن نفرز ثلاثة مناهج أساسية أكثر أهمية من غيرها في هذا المجال وهي : · المنهج الأول هو ذلك المنهج الذي يركز على السؤال المهم : من لديه السلطة ؟ ويمكن تسمية هذا المنهج بالمنهج الذاتي بمعنى أنه يسعى لتحديد الذات الممارِسة للسلطة. وضمن هذا المنهج هناك نقاشات ساخنة وجدل لا يتوقف ما بين منظري " التعددية " أو " نخبة السلطة " و " الطبقة الحاكمة ". · أما المنهج الثاني فهو ذلك المنهج الذي يتعامل مع هذه القضية بطريقة رجل الأعمال مركزاً على السؤال : ما الكمية ؟ بمعنى ماهي كمية السلطة ؟ وفي مسعى الإجابة على هذا السؤال يدعو هذا المنهج الى التشديد على السلطة كفعل power to do وليس السلطة على power over، والتشديد على تبادل السلطة وتراكمها وليس توزيعها. يعتمد التحليل السياسي من هذا الطراز على أحد الأشكال المختلفة للنظرية الإقتصادية الليبرالية. إن السلطة تدرس ضمن هذا المنهج من خلال الأفضليات، أو البدائل أو الخيارات الممكنة. · في حين أن المنهج الثالث، هو المنهج الماركسي، بتنوع تياراته ومداخله المختلفة. في مسعاه لإنتاج معرفة سليمة عن طبيعة السلطة السياسية لا ينطلق من " وجهة نظر اللاعب " بل من العملية الإجتماعية السابقة، أي عملية إعادة الإنتاج الإجتماعي. وبتكثيف يمكن صياغة السؤال الرئيسي لهذا المنهج كما يلي: ماهي طبيعة السلطة وكيف تتم ممارستها ؟ نقطة التركيز، إذن، في التحليل الذي يعتمده هذا المنهج، ليست الملكية ولا المالكين بحد ذاتهم، بل علاقات الإنتاج التاريخية المحددة، في ترابطها الوثيق بقوى الإنتاج من جهة وبالدولة ومنظومة الأفكار الإجتماعية السائدة في التشكيل الإجتماعي التاريخي الملموس من جهة ثانية. إن هذا المنهج ينظر الى الدولة بإعتبارها مؤسسة مادية محددة تتمركز عندها علاقات القوة ضمن المجتمع. إن الدولة، بحسب هذا المنهج، لا تمتلك سلطة بحد ذاتها، بل إنها " المؤسسة " التي تتجمع السلطة فيها وتمارس. يمكن الاستنتاج، إذن، بأن النقطة الأساسية التي يركز عليها هذا المنهج، ليست العلاقات الشخصية بين مختلف " النخب "، كما أنها ليست " عملية اتخاذ القرارات ذاتها "، بل هي تأثيرات الدولة على إنتاج وإعادة إنتاج معينة، سواء كانت هذه التأثيرات حقيقية أو مفترضة. يجب أن يكون واضحاً إن حلقة إعادة الإنتاج التي تربط الدولة، كأحد مكونات البناء الفوقي، بالقاعدة الإقتصادية هي حلقة تفاعل متبادل. فالقاعدة الإقتصادية تقرر البنية الفوقية السياسية عبر دخولها في عملية إنتاج سلطة الدولة وجهاز الدولة، لكن يتعين التأكيد على طبيعة العلاقة هذه. إن العلاقة بين أنماط الدولة وأساليب الإنتاج السائدة ليست علاقة ميكانيكية بسيطة بل هي علاقة مركبة ومعقدة في أن. إن هذا التعقيد هو نتاج تداخل المؤثرات الداخلية والخارجية وتفاعلها وانعكاسها على نمط الدولة والأشكال التي تتخذها، وعلى وجه الخصوص محتوى التراكم الإقتصادي وحجمه والتحولات الإجتماعية المرافقة له في منشأه وتحول الأنظمة السياسية وطبيعة السلطة ذاتها . ينطرح، إذن، سؤال أخر هو : كيف تؤثر الدولة وتدخل في عمليات إعادة الإنتاج الإجتماعي ؟ إن هذا يتقرر عبر : ماذا يتم فعله من خلال الدولة ؟ وعبر ذلك : كيف يتم ذلك من خلال الدولة ؟ عندما يجري الحديث عن طبقة ما تمسك بزمام السلطة، فإن المقصود بذلك أن ما يتم فعله من خلال الدولة، يؤثر إيجابياً على إعادة إنتاج نمط الإنتاج الذي تكون الطبقة المقصودة هي ممثلته السائدة. غير أنه ينبغي التحذير هنا من إساءة تفسير التعابير الشائعة من قبيل " أخذ " و " الإمساك " بسلطة الدولة، على أنها تعني أن سلطة الدولة هي شيء يمكن لمسه باليد. إن هذه القضية هي أبعد وأعقد من ذلك بكثير. فهي، بالأحرى، عبارة عن عملية تدخلات في مجتمع معين من قبل " مؤسسة منفصلة " هي الدولة، تتركز لديها الوظائف العليا في المجتمع والمتمثلة في : وضع القانون، تطبيق القانون، تعديله، فرضه والدفاع عنه " عند الضرورة ". ولهذا فإن " أخذ " سلطة الدولة و " الإمساك " بها يعني بدء نمط معين من التدخل من قبل " هيئة خاصة " مخولة للقيام بتلك الوظائف . غير أن الملاحظة السابقة، على أهميتها، لا تكفي بل يتعين الإشارة الى ثلاث قضايا أخرى هامة وهي : · الأولى : إن الدولة، في بنيتها، ليست واقعاً جامداً، بل يحتمل شكل الدولة تغيرات متنوعة، هي نتاج ورهان الصراع السياسي. وقد تكون تلك التغيرات في بعض الأحيان " راديكالية ". ولا تستخدم الطبقة المسيطرة الدولة كما لو أنها علاقة تصرف حر إرادي تجاهها بل أن هذه الطبقة تتشكل ويعاد إنتاجها بفضل التغيرات الحاصلة في الدولة كآلة. وإذا لم يكن مفهوم " آلة الدولة " قد أُعلن رسمياً، فهو حاضر عملياً على الدوام.· الثانية : تتضمن السلطة السياسية لطبقة ما والتي هي نتاج وشرط لسيادتها الإقتصادية، سلطة فعلية للممثلي هذه الطبقة على جهاز الدولة. ولأن هؤلاء الممثلين هم أنفسهم دوماً أعضاء في " شريحة " محددة من الطبقة المسيطرة فإنه يمكن للسلطة السياسية أن تكون رهاناً للصراع فيما بين هذه الشرائح. ومنعاً لأي التباس منهجي يجب عدم خلط السلطة الفعلية الخاصة بالماسكين بآلة الدولة مع سلطة الدولة المنظمة قانونياً على المجتمع، ذلك لأن هذه الأخيرة هي التي تؤول الى تحقيق السلطة الفعلية. ومع أن الدور الذي تحتله التناقضات الداخلية بين الشرائح المختلفة للطبقة المسيطرة وصراعاتها الداخلية لاحتلال مراكز القوة هو دور ثانوي بالنسبة للتناقض الرئيسي إلا أنه ما يزال هاماً. إن التجليات لمختلفة التي تتخذها الدولة وأشكالها ترتبط بتبديل مراكز القوة بين شرائح الطبقة المسيطرة. غير أنه يتعين التأكيد على أن السيطرة الإقتصادية والهيمنة السياسية لا تكونان متماثلين بشكل ميكانيكي. إذ يمكن لإحدى شرائح الطبقة المسيطرة أن تلعب الدور المسيطر في الإقتصاد ولكن من دون أن تحظى بالهيمنة السياسية، والتاريخ شاهد لا يجامل. · الثالثة : تحقق آلة الدولة علاقة طبقية تنعقد في مكان أخر، في الميدان الإقتصادي. غير أن الميكانيزم الذي يحقق هذه العلاقة إنما يحققها وهو يعمل على إخفائها ! إن عمل الدولة الأخير الذي يتكون بفعل وجودها وتحولها الخاصين بها، هو تكوين المجتمع والدولة نفسها في مواجهة أحدهما للأخر. يكمن عملها في تحقيق هذه المعارضة التي هي، في الوقت نفسه، تبعية وتوحيد، وهي تجعل سيطرة المصالح المهيمنة ممكنة بفضل تحقيقها من خلال تغليف المجتمع المدني الذي تحققه بمثابة دولة. هكذا يسمح اشتغالها، إذن، بممارسة السلطة من قبل الممثلين " الشرعيين " الذين جرى تكوينهم لإنجاز هذه المهمة ولاحتلال موقع ممثلي المجتمع، الموقع الذي أكتسب شرعيته أولاً وتم إخفائها . لا تعني الملاحظات السابقة أن الدولة طاقم مفكك الأقسام والمستويات كتفسير لتقاسم السلطة السياسية بين طبقات وشرائح متعددة، بل أن الأمر هو غير ذلك تماماً. إذ فوق التناقضات ضمن أجهزة الدولة المختلفة وخلفها، تحمل الدولة دائماً وحدة داخلية متميزة، هي وحدة سلطة الطبقة المسيطرة أو الفئة المهيمنة، غير أن هذا يحدث بشكل معقد وليس بصيغة مباشرة، بل عبر توسطات. إن إعادة إنتاج مجتمع محدد تبين أن إعادة إنتاج نمط أداء وظيفة كعملية اجتماعية مستمرة، لا تتوقف، يتم من خلالها إنتاج السلع وتوزيعها ولاستهلاكها، وكذلك إعلان الأوامر وتطبيقها، علاوة على استعراض العنف أو ممارسته " عند الضرورة "، وكذلك معايشة الأفكار ووضعها موضع التطبيق الفعلي. ونظراً لأن أي نشاط إنساني لابد أن يكون له هدف محدد فإن لإعادة الإنتاج هدفين هما : المواقع في بنية اجتماعية معينة، وكذلك الأشخاص اللازمين لتشغيلها . ونستطيع، إذن، أن نقول بأن إعادة الإنتاج الموسع للطبقات الإجتماعية ( للعلاقات الإجتماعية) يستلزم عمليتين لا يمكن تواجد أحدهما بمعزل عن الأخرى : · أولاً : ثمة إعادة إنتاج موسعة للمراكز التي يحتلها الوسطاء، وتجلو هذه المراكز التحديد البنيوي للطبقات، أي الطريقة التي من خلالها يعمل التحديد المذكور على ضوء البنية ( علاقات الإنتاج ، علاقات السيطرة/الخضوع السياسية والإيديولوجية) في الممارسة الطبقية. · ثانياً : هناك إعادة إنتاج للوسطاء أنفسهم وتوزيعهم على هذه المراكز. إن الوسطاء سيعاد إنتاجهم " تدريبهم على الإذعان " لكي يحتلوا مراكز معينة، ولهذا فإن توزيعهم لا يعتمد على
الزواج الكاثوليكي بين المثقف والسلطة، استبعاد العامة:
ثمّة اعتقاد دوغمائيّ عند الفصيل الأكبر من المثقّفين باستحالة التغيير دون مساندة السلطة. أقول اعتقاد "دوغمائي"؛ لأنه نتيجة تراكم تراث طويل ممتدّ من تقسيم الناس إلى "خاصّة" و"عامّة"، حيث لا يسمح بتداول المعرفة "الحقّة" إلا بين "الخاصة"، بينما يترك العامة لعقائدهم وتصوّراتهم المريحة. يكفي للتدليل على هذه الحقيقة التاريخية ما كان يدور داخل قصور "الموحّدين" في الأندلس من نقاش فلسفيّ حول حدوث العالم وقدمه، بينما لا يسمح، خارج أسوار القصر، إلا باتباع العقائد القائمة على أساس الفهم الحرفي للنصوص الدينية.
في هذا التصنيف التمييزيّ بين البشر، يتّفق كلّ من "أبي حامد الغزالي" و"ابن رشد"، رغم البون الشاسع بينهما في مواقفهما اللاهوتية والفلسفية. إنّ كثيرا من المثقّفين المعاصرين يؤمنون أنّ ثمّة قضايا ومسائل لا يجب أن تناقش إلا داخل الأكاديميات، حفاظا على عدم المساس بعقائد العامّة، وهذا هو نفس المنطق القديم. مفهوم "الخاصة"، في الفكر المعاصر، يتسع ليشمل المفكّرين والمبدعين ورجال السياسية، وفي عصر الليبرالية الاقتصادية يشمل "رجال الأعمال". كلّ هذه التمييزات والتصنيفات، في جوهرها، قيود تنتمي إلى عصور مضت، لكنها ما تزال سائدة للأسف الشديد في عصر انتشار التعليم، والثورة التكنولوجية في مجال الاتصال: عصر السماوات المفتوحة والإنترنت. والأهم من ذلك عصر "ديمقراطية المعرفة".
يجب أن يتمكن المثقف من إنتاج خطاب لا يضع السلطة في بؤرته سلبا ولا إيجابا. وليست هذه دعوة للتوقّف عن نقد السلطة، بكلّ تجلياتها الاجتماعية، والسياسية، والثقافية: أعني عدم اختصار مفهوم "السلطة" في نظام الحكم. بعض المثقفين يؤمن أنّ التغيير لا يأتي ولا يتحقّق إلا من أعلى، بينما أتصوّر أنّ التغيير الدائم لا بدّ أن يأتي من القواعد لا من القمم. تستطيع السلطة تغيير القوانين، لكنّ هذه القوانين تظلّ فاقدة الأثر ما لم تتغيّر الأذهان.
يجب على المثقف أن يحتفظ لنفسه بمسافة خارج مفاهيم السلطة، حتى لو كان النظام السياسيّ يتبنّى بعض المفاهيم التي يتبنّاها المثقف. هذه المسافة تسمح للمثقف بالاستقلال الفكري الذي يحميه من أن يقوم بتبرير القرارات السياسية أو الدفاع عنها. الاستقلال عن السلطة لا يعني معاداتها، بل يهدف إلى ترشيدها؛ فالسياسة هي فنّ تحقيق الممكن، والفكر سعي لاكتشاف المجهول وفتح آفاق الممكن. المثقّف الغربي متحرّر من تلك القيود الكلاسيكية، التي تصنّف الناس إلى خاصة وعامّة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يسمح واقع المجتمعات الغربية – التي تأسست فيها الديمقراطية على أساس حرية الفرد – بتداول الأفكار، ليس فقط خارج إطار سيطرة السلطة – أي سلطة اجتماعية أو سياسية أو دينية – بل ضدّ هذه السلطة تحديدا. منطقة "المحرّم" و"اللا مفكر فيه" تتّسع في ثقافتنا، بينما تضيق إلى أقصى حدّ في الثقافات الغربية. من أقدس المقدّسات في هذه المجتمعات: حقّ حرية الرأي، وحقّ حرية التعبير. ولهذا لا تفهم شعوبنا – وبعض مثقفينا للأسف الشديد مرة أخرى – عدم قدرة الحكومات في هذه المجتمعات الغربية على كبح جماح الأصوات المتطرفة ضدّ الإسلام هنا وهناك. إنهم يطالبون الحكومات بالحظر والمنع قياسا على ما ترتكبه السلطة – بالمعنى الواسع لكلمة السلطة، أو فلنقل السلطات – من حماقات ضدّ حرية الفكر والتعبير باسم "الحفاظ على الثوابت". وهو مفهوم مضلّل ربما نناقشه في مقالة مستقلة. المشكلة في تحالف المثقف مع السلطة في عالمنا أنّ السلطة تعتمد في تأسيس مشروعيتها على الماضي، بينما يجب أن تستمدّ السلطة – أيّ سلطة – مشروعيتها من الحاضر الحيّ، وليس من الماضي الميّت. أقصد بالحاضر الحيّ: الحاضر المتواصل مع الماضي تواصلا ديناميكيا نقديا خلاقا. الحاضر، الذي يعيد إنتاج الماضي بالترديد والتكرار، يفسح المجال لقيام ديكتاتوريات قمعية تسلطية.
دين السلطة وسلطة الدين:
انظر حولك في إيديولوجيا السلطات السياسية، المتمثلة في الألقاب والأسماء التي يحملها الحكام، بل وأسماء بعض الدول. هذا فضلا عن الدساتير – إن وجدت – التي تصر على احتكار السلطة للمعنى الديني، حين تقرر أن للدولة – في مجتمعات حديثة متعددة الأديان، بل ومتعددة الانتماءات المذهبية داخل نفس الدين – دينا. تتضمن معظم هذه الدساتير مادة: "الإسلام دين الدولة الرسمي، والشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي – أحيانا أحد مصادر – للتشريع".
الدولة ذات الدين تحتاج لسلطة دينية تحدّد معنى هذا الدين، وتحتاج لسلطة سياسية تحمي هذا الدين. وتستقطب هذه السلطات – بالجزرة أو بالعصا – فصائل من المثقفين والمفكرين الذين لا يملون التصدّي للدفاع عن "ثوابت" – دينية ووطنية وقومية وثقافية، في الأعراف والتقاليد الأخلاقية والعائلية - ضدّ التغيير والتطور. باختصار يصبح الدفاع عن هذه الثوابت/الأقانيم دفاعا عن كلّ الأوضاع الراهنة، والسماح ببعض مظاهر التجميل الخارجية في المباني والشوارع.
كلّ هذا التجمّد يؤثّر بشكل أو بآخر علي ذهنية المسلمين، الذين يعيشون في الغرب، والذين تتزايد عند أغلبهم سيكولوجية الخوف من فقدان الهوية، التي انحسرت أخيرا في الهوية الدينية، نتيجة الأسباب المذكورة. يضاف إلى ذلك التحوّل الذي أحدثته مأساة الحادي عشر من سبتمبر، وما تبعها من تفجيرات في مدريد ولندن، بالإضافة إلى مقتل المخرج الهولندي فان جوخ على يد شابّ من أصول مغربية، في تدشين العلاقة بين الإرهاب والإسلام، الأمر الذي خلق حالة الإسلاموفوبيا في الغرب. وهكذا أصبحت العلاقة بين المسلمين في الغرب وبين مواطنيهم علاقة توتّر وتوجّس وشكّ متبادل.
زاد من تعقد الأمر مسألة "حرية التفكير والتعبير" التي لا تُساوم في الوعي الغربي، والتي أدت إلى ازدياد الاحتقان المعادي للغرب في العالم الإسلامي: الكارتون الدانمركي، وتصريحات بابا الفاتيكان، وأفلام اليميني الهولندي فيلدرز، وأخيرا مسألة "المآذن" في سويسرا، مجرد أمثلة. المسألة ليست بالضبط مكانة الإسلام في الغرب، فثمّ دعوات الآن، هنا وهناك، للسماح للمسلمين بالاحتكام إلى الشريعة في شئون الأسرة، بل هي العلاقة بين المسلمين وبين مواطنيهم غير المسلمين في بلاد الغرب. المشكلة هي التي يطلق عليها الساسة ورجال القانون اسم "مشكلة الاندماج" ويتناولها المفكرون والمثقفون من مداخل مختلفة، مثل "التعدد الثقافي"، "النسبية الثقافية"، مفهوم "المواطنة" في الدولة الحديثة المتعددة الأعراق والثقافات والأديان .. الخ
مشروع الإصلاح الدينيّ المؤجل:
هل توقّف المشروع الإصلاحيّ التنويريّ – أتردّد في استخدام كلمة تنوير بسبب ما علق بها كما يعلق بكثير مثلها من حمولات إيديولوجية – الذي بدأ في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؟ نحن مغرمون بالبكاء على الماضي، فقط حين يصبح ماضيا. هذا المشروع الإصلاحي الماضي كان ملعونا في زمنه: محمد عبده كان مرفوضا، وما يزال، من المؤسسة التي حاول إصلاحها ففشل. قاسم أمين: تجهّم له "سعد زغلول" الزعيم السياسي، و"طلعت حرب" الرائد الاقتصادي، فضلا عن الخديوي. الطهطاوي، قبلهما، تم نفيه إلى السودان. قصة طه حسين وعلي عبد الرازق ثم خالد محمد خالد ولويس عوض قصص معروفة، لكن ما حدث لمحمد أحمد خلف الله بسبب رسالته لنيل درجة الدكتوراه عن "الفنّ القصصي في القرآن" بإشراف أمين الخولي عام 1947 غير معروف، وقصة "أبو زيد الأول" الذي رفعت ضده دعوى تفريق في محكمة دمنهور عام 1917-1918 بسبب قوله إنّ القول بنبوّة أدم، أي أنّ آدم كان أوّل الأنبياء، يعتمد على أدلّة ظنّية وليس على أدلّة قطعية. رفع عليه البعض دعوى ردّة مطالبين بالتفريق بينه وبين زوجته أمام محكمة دمنهور الابتدائية التي حكمت بالردّة والتفريق. لكنّ محكمة الاستئناف بالإسكندرية ألغت الحكم، والقصة بتفاصيلها المثيرة يمكن قراءتها في مجلة "المنار" العدد ا. هناك قصص أخرى وقعت خارج مصر يمكن أن تضاف: ما حدث للحدّاد في تونس وما حدث لمحمود محمد طه في السودان. ليس صحيحا إذن أنّ التنوير تحقّق ثم انطفأ؛ ذلك أنه لم يغادر حدود العواصم فأمكن حصاره وقتله. غدا أتوقّع أن يبكي أخلافنا علينا بعد أن نمضي. المشروع لم يتوقّف ولكنّ محاولات حصاره وخنقه تتزايد بسبب هذا الزواج الكاثوليكي بين المثقف والسلطة.
التنوير نجح في الغرب بسبب استقلال المثقف، واستقلال الفكر، عن أن يدور في فلك أيّ سلطة. التنوير في عمقه هو تحرير العقول من كلّ السلطات، سياسية واجتماعية ودينية. وليس معنى تحرير العقل تدمير هذه السلطات، بل تحجيم مجال تأثيرها. من هنا ارتبط التنوير في تطوره بإبداع سلطات موازية لتحجيم تغول السلطة السياسية، مثل السلطة الرقابية والتشريعية – النابعة من ممثلي الشعب عبر تطوير آليات الديمقراطية - والسلطة القضائية المستقلة والسلطة الرابعة، سلطة الرأي العامّ المتمثل في الصحافة والإعلام المستقلين، وهي أهمّها. من هنا إقرار مبدأ "الفصل بين السلطات". كلّ هذا لم يتحقق في مجتمعاتنا، ما زالت السلطة السياسية تتغوّل على باقي السلطات، وأحيانا تحوّلها إلى مجرّد أبنية وهياكل وظيفية. الصحافة والإعلام في قبضة الأنظمة السياسية، أو في قبضة المال الذي أصبح جزءا جوهريا من السلطة. المال في العالم العربي ليس نتاج العمل، بل هو إما نتاج ركاز الأرض –البترول- أو نتاج السمسرة. كل ذلك يكشف عن بعض أسباب الخلل في البنى التي يمثل التنوير تهديدا لاستمرارها، فلا تبخل بأي جهد يقتله، أو يخنقه، أو يحاصره وهذا أضعف الإيمان في ظل العولمة التي تكشف عن بعد كل الأسرار.
التواصل مع العامة، كيف؟:
والسؤال الآن: كيف يتواصل المثقف بخطابه مع دائرة أوسع من الجمهور؟ وكيف ينتج خطابا عميقا ومفهوما في نفس الوقت؟ ليس عندي وصفة جاهزة لحلّ هذا المعضل، الذي أعتبره تحدّيا حقيقيّا لكل مثقّف في مجتمعات العالم الثالث، حيث "التعليم" في أزمة عضال. المسألة ليست إنتاج خطاب شعبوي، يطبطب على عواطف وغرائز الجماهير. يقوم الإعلام بتحقيق ذلك بنجاح ساحق: أعني يسحق سحقا كل خطابات المثقفين. المطلوب خطاب نقدي يحترم عواطف الناس ومشاعرهم، دون أن يزايد عليها. من المؤكّد أنّ ما لا تصنعه الشعوب لا يستقرّ في وجدانها الثقافي. وما حدث من تشويه للحداثة وابتسار لقيمها في عملية "التحديث" في العالم العربي لم تقترفه الشعوب، بل اقترفته السلطة التحديثية، بمعاونة مثقف حداثي ظل يراوح مكانه بين التراث والحداثة، دون أن ينتج وعيا علميا بأيّ منهما. لا يمكن تحقيق حداثة علوية – من أعلى – مع المحافظة على البنى التقليدية تحت أيّ مسمّى.
سيكولوجيا السياسة- عبد الكريم ناصيف- جريدة الاسبوع الادبي 1 علم السياسة: مذ نشأت المجتمعات البشرية نشأت السياسة، ذلك أن السياسة هي فن إدارة المجتمع الذي يتخذ شكلاً أو وحدة سياسية ندعوها الدولة. لقد عني المفكرون والباحثون منذ القدم بمسألة الدولة والسياسة والسياسي، نظراً لأهمية هذه العناصر الثلاثة في حياة الإنسان والمجتمع وشدة تأثيرها على تلك الحياة، فقد يكلف خطأ سياسي واحد المجتمع خسائر باهظة مادية ومعنوية، قد تودي به إلى الهلاك.... السياسة بالنسبة إلى المجتمع مسألة حياة أو موت، خراب أو عمران، تخلف أو تقدم، انحسار أو ازدهار، لهذا كتب أفلاطون في السياسة بل تصور جمهورية مثلى للدولة، يكون فيها الفلاسفة ورجال الأدب والفكر هم رأسها المحرك، كما كتب في علم السياسة أرسطو وراح ضحية السياسة سقراط نفسه، كذلك كتب المفكرون العرب: ابن رشد، الفارابي، ابن خلدون... إلخ، فيما خصص الإيطالي ميكافيللي كتابه «الأمير» لهذا العلم، باحثاً في مواصفات السياسي الناجح، محدداً السياسة ومقومات السياسة التي تفضي بها إلى الفلاح أو الإخفاق. ولقد أفاد المنظرون السياسيون الكلاسيكيون، حين كتبوا في علم السياسة هذا، من علم النفس المتاح لهم بأكثر أشكاله تقدماً، لكن المدى الكبير الذي بلغه علماء السياسة في استخدام علم النفس والمعارف السيكولوجية لم يتم التوصل إليه إلا في عهد حديث.‏ أي بعد أن تطور علم النفس وانصقل وتبلور على شكل علم قائم بذاته. ونظراً لأن من المستحيل على عالم سياسي أن يتجنب استخدام الافتراضات المتعلقة بالشخصية البشرية فقد انشغل بعضهم في هذا الاستخدام وغرقوا فيه إلى درجة اتهمهم بعض النقاد «بالسكلجة»، أي بتجاوزهم الحدود المسموح بها للسيكولوجيا، مما سبب القلق للنقاد الذين شعروا بطغيان السيكولوجيا على السياسة لدى علماء السياسة أولئك.‏ عبر التاريخ ظل الشغل الشاغل لعلماء السياسة هو تحديد مواصفات السياسة الناجحة التي توفر للمجتمع الرخاء والازدهار، الأمن والسلام، الحرية والاستقلال وبالتالي السيادة والكرامة، وقد انصبت انتقاداتهم كلها على الممارسات السياسية التي تنعكس على المجتمع انعكاسات سلبية تودي به إلى أضداد ما سبق وذكرت.. خاصة وهم يعلمون أن كل سلوك أو قرار يتخذه السياسي سينعكس سلباً أو إيجاباً على المجتمع.‏ كذلك كان الهم الدائم لعلماء السياسة أن يحللوا الدوافع والأسباب الكامنة وراء هذه السياسة أو تلك هذا السلوك السياسي أو ذاك، مثال على ذلك خروشوف: لماذا خلع حذاءه وضرب به المنضدة التي يجلس عليها؟ أزمة خليج الخنازير التي كادت تفجر حرباً عالمية ثالثة، اغتيال ولي عهد النمسا في سراييفو، وهو الحدث الذي أشعل مباشرة فتيل الحرب العالمية الأولى.. إلخ.‏ إنهم ينطلقون في أبحاثهم وتحليلاتهم هذه من نقطة أساسية هي التالية: إذا ما تمت معرفة الأسباب والدوافع وراء هذه السياسة أو ذلك التصرف، أصبح بالإمكان فهمه وبالتالي تفادي وقوع مثيل له في المستقبل.‏ ضمن هذا المجال ينضوي اهتمام علماء السياسة بدراسة ظاهرة بدت غاية في الأهمية لتأثيرها البالغ في مجرى التاريخ وأحداث العالم كله في القرن العشرين، ألا وهي ظاهرة الاستبداد والدولة الاستبدادية. لقد انكب علماء السياسة في مرحلة من المراحل على تحليل تلك الظاهرة طبقاً لأنواع بعينها من الحكم غير الديموقراطي، فحددوا لب المسألة الاستبدادية بأنه يكمن في طبيعة النظام الاستبدادي ذاته. نتيجة ذلك جرت دراسة الاستبداد بطرق متعددة بغية تحديد جوهره من حيث أنه سياسات وممارسات منظمة للدولة، ولقد اتفقت معظم تلك الدراسات على عناصر أساسية عدة تتكون منها استبدادية الدولة وهي:‏ 1 وجود مجموعة من الأفكار المتطرفة ذات الطبيعة الإيديولوجية (السياسية العقائدية وأحياناً الدينية) التي تخدم كخطوط إرشاد مطلقة. هنا، تعد الأنظمة الاستبدادية والدكتاتوريات العسكرية في القرن العشرين جديدة تماماً، نظراً لأن الإيديولوجيا هي التي لعبت، في الأغلب، الدور الأساسي في قيامها. تتضح هذه الحالة بأجلى أشكالها في الفاشية والنازية، إذ شكلت مجموعة أفكار سياسية «متماسكة» أو ما يمكن أن نسميها بالإيديولوجيا، خطوط إرشاد مطلقة للحزب، الدولة، والناس بغية التقدم نحو أهداف النظام «المجيدة». تلك الأفكارالتي تنتقل عادة عبر منظومة وحيدة الاتجاه للدعاية. بحيث يتعين على المجتمع أن يؤمنوا بها كحقائق مطلقة دون سواها.‏ بهذه الطريقة استطاعت تلك الأنظمة الادعاء بأنها هي الشعب ذاته دون أن تكون قد تسلمت المسؤولية من ذلك الشعب بالانتخاب ودون أن يكون هذا الشعب قد فوضها بأن تنوب عنه أو تمثله البتة.‏ تتحول الإيديولوجيا، ما إن تتم صياغتها على شكل «ماين كامبفز» أي كراسات صغيرة صفراء أو خضراء أو حمراء، إلى ثقافة سياسية ذات عقابيل نفسية تظهر على شكل «نزعة تقليدية استبدادية» في حال دعم الأنظمة الاستبدادية اليمينية أو «نزعة استبدادية دوغمائية» في حال التطرف اليساري أو اليميني على السواء.‏ إنها الاستعداد التام للامتثال الكامل للإيديولوجيا أو خط الحزب، فالإيديولوجيا المهيمنة تكون نتاج كل ما هو تقليدي موروث وراسخ، لذلك لا تتحمل أية أفكار منافسة ولا تتساهل مع أية مواقف مغايرة.‏ 2 وجود تنظيم مكرس لتلك الأفكار: فالأفكار الاستبدادية تحتاج إلى تنظيم لكسب القوة السياسية. مثل هذه الأفكار قد تبقى هاجعة فترة طويلة من الزمن، تتغذى خلالها وتبقى حية من خلال خلايا أو روابط أخوية صغيرة أو جمعيات سرية أو أحزاب هامشية... بعدئذ، وفي ظروف ملائمة، تثب إلى السلطة شريطة أن تكون قد أقامت أو طورت تنظيماً فعالاً. ذلك أن التنظيمات الاستبدادية تطور مع الزمن مبدأ تنظيمياً بارزاً: التراتبية الاستبدادية، أي ما دعي في الفاشستية بمبدأ: الفوهرر، (أي القائد)، حيث تمضي الأوامر من القمة إلى القاعدة لتنفذ بحذافيرها دون تردد أو تذمر:‏ بهذه الطريقة تتنامى ثقافة الطاعة السياسية العمياء للقائد وبالتالي للحزب والدولة.‏ فالولاء المطلق والطاعة العمياء هما المتوقعان من الطبقات الدنيا في التنظيم. هذا الموقف التراتبي يغدو كلي الوجود، أي هو موجود بين الحزب والقائد، الحزب والدولة، الحزب والمواطنين، إنها تراتبية شاقولية للسلطة (أي من أعلى إلى أسفل) وهي أساسية للغاية بالنسبة إلى مفهوم الاستبدادية. كما أنها تختلف عن التراتبية الديمقراطية وحتى العسكرية في أنها ترفض أي نقد يأتي من تحت وتعادي أية جهة تتذمر أو تشكو حتى لو كان ذلك في صالح التنظيم. يدعى هذا التوجه التراتبي بالخضوع الاستبدادي.‏ 3 ظهور أعمال متطرفة يدعى إليها أو يتم القيام بها لنشر تلك الأفكار: أي استخدام الرعب والعدوان الاستبدادي للبقاء في السلطة فهناك اتفاق بين معظم علماء السياسة على أن أبرز سمة للأنظمة الاستبدادية هي: حكم الخوف، وذلك من خلال القيام بأعمال قاسية لا إنسانية تصل أحياناً إلى حد الوحشية بهدف واحد هو: إخافة الناس وزرع الرعب في قلوبهم، بدءاً من حملات التطهير إلى الاغتيالات والقتل، إلى السجن والنفي، وانتهاء بمعسكرات التجميع في دول القرن العشرين كليانية السيطرة. فكلها تهدف إلى تخويف الناس وإرهاب كل من يحتمل أن يعارض القائد أو الحزب أو الدولة أو يتخذ موقعاً معادياً لها. إنه السلاح الأساسي للقمع وكم الأفواه وبالتالي لسحق المعارضة بغية البقاء في السلطة.‏ أما تعريف «العدو» ، بالنسبة إلى هذه الأنظمة، فغالباً ما يكون مبهماً، إلى درجة يمكن معها لأي مواطن أن يكون ذلك «العدو»، وبالتالي أن يخاف من الاعتقال، العقاب، التعذيب، وحتى الموت.‏ لعل ثقافة الخوف السياسي هي الأكثر تميزاً للأنظمة والدكتاتوريات الاستبدادية. إنها، وعلى نحو لا مناص منه، تتغلغل في المجتمع بكامله والمؤسسات برمتها. هذا الميل لإنزال العقاب القاسي بكل من يفترض أنه منتهك، يدعى العدوان الاستبدادي. لقد درس علماء السياسة ظاهرة الاستبداد هذه بكثير من التفصيل لا مجال لذكره هنا، كما درسوا ظواهر أخرى في السياسة كالتعصب العرقي مثلاً، النزعة الانفصالية، وغيرها من الظواهر السياسية مستفيدين من علم النفس وتطوراته في القرن العشرين، فما دور علم النفس يا ترى؟‏ ب علم النفس هو المكوّن الثاني لعلم النفس السياسي:‏ كما نعلم، يهتم علم النفس أساساً بدراسة النفس البشرية وما يكوّنها من عناصر، في محاولة جادة لفهم تلك النفس بكل ما فيها من غرائز وطباع، نزعات وميول، بواعث ودوافع، وعي ولا وعي، نظراً لأن السلوك الإنساني يتوقف، في معظمه، على التركيبة السيكولوجية للإنسان، فرداً ومجتمعاً.‏ لقد ركز علماء النفس كثيراً على علم نفس الفرد مثل: سلوك قادة بعينهم، سلوك مواطنين أفراد كمنتجين ومشاركين مثلاً، كما ركزوا على السلوك الجمعي سواء أكان ذلك على مستوى الجماعة أم الأمة. لقد امتدت الدراسات السيكولوجية للأفراد إلى ما وراء دراسات السيرة الذاتية لقائد بعينه أو استبيان آراء المواطنين ومواقفهم كي تتضمن محاولات تنظيرية أكثر بحيث تقيم صلة وصل بين سمات الشخصية والتوجهات الإيديولوجية، كما هي الحال بالنسبة إلى الشخصية الاستبدادية الفردية، فيما تضمن علم نفس السلوك الجمعي مسائل تمتد من الأشكال العرقية وغير العرقية لهويات الجماعة وصولاً إلى احتكاك الثقافات المتعددة بعضها بالبعض الآخر والمسائل المتعلقة بقضايا الحروب والتطلع إلى السلام.‏ لقد كان اللب الحقيقي لعلم النفس، منذ أن نشأ، هو تحليل نفسية الفرد والاهتمام بالنفس البشرية ككينونة قائمة بذاتها. لكن مع اتساع دائرة علم السياسة وتطور علم نفس السياسة، بات لا بد من الانتقال إلى الاهتمام بالجماعة ودراسة علم النفس الجمعي، هنا بدت إشكالية مزعجة. فالانتقال من علم نفس الفرد الغني بالمعلومات والمعارف إلى علم النفس الجمعي الوليد، وضئيل المعلومات والمعارف، واجه صعوبة كبيرة قوامها أن علم النفس الجمعي ليس مجرد تراكم لعلم نفس الفرد، نظراً لأن الجماعة ليست مجرد تراكم أفراد، بل هي تراكم كمي يحدث تغييراً نوعياً تماماً، الأمر الذي ترك انعكاسه على علم النفس السياسي وشوهه فترة من الزمن، ذلك أنه برز سؤال هام: إذا كانت الشخصية البشرية كينونة قائمة بذاتها وبالغة التعقيد بذاتها، فكيف بالشخصية الجماعية؟ وإذا كان من العسير فهم سيكولوجيا الفرد فكيف يمكن يا ترى فهم سيكولوجيا الجماعة والمجتمع، الميدان الأساسي لسيكولوجيا السياسة ومجال اهتمامها؟‏ الجواب جاء مع تقدم المعرفة في ميدان علم النفس وتطور التقنيات المستخدمة لاستكشاف بعض العلاقات التفصيلية القائمة بين المواقف السياسية من جهة والأحاسيس والعواطف من جهة ثانية، وكذلك لتحديد هوية عدد من أوهام الوعي واللاوعي، البواعث والدوافع التي تحدد فهم الناس لطبيعة السياسة وقدراتها. لكن هذا أفضى إلى تناقض آخر هو أن نسبة صغيرة من مجموعة المواقف والمشاعر الكثيرة التي يقفها الناس ويشعرون بها تجاه السياسة، تظهر فقط في سلوكهم السياسي العملي، مما يعني أن العمليات الظاهرة لنظام سياسي ما، لا تتضمن إلا جزءاً يسيراً من جملة المواقف والتصورات السياسية لدى أفراده المشاركين.‏ ولفهم هذا التناقض، يمكننا، لحسن الحظ، أن نعود إلى مفهوم الثقافة نستخدمه ونربطه بنظرية الشخصية والسلوك، فما أهمية الثقافة بالنسبة إلى علم النفس السياسي؟‏ ج الثقافة هي المكوّن الثالث لعلم النفس السياسي:‏ يمكننا تعريف الثقافة بأنها النطاق المشترك لمفاهيم الوعي واللاوعي المكتسبة وللمشاعر المرتبطة بها، تلك التي تتوضع في نفسية الأفراد الداخلية، المؤسسات المجتمعية (مؤسسات اجتماعية اقتصادية، سياسية...) للفئة الثقافية وممارساتها العامة ونتاجاتها. وبتحديدها كذلك، تبدو صلتها بعلم النفس السياسي واضحة بذاتها. ترتكز العلوم الاجتماعية كافة على حقيقة أساسية هي: أن المجتمع البشري ممكن الوجود فقط بفضل الثقافة. فالسلوك الاجتماعي منمّط من حيث الجوهر، وكذلك التعاملات ذات المعنى التي تجري بين البشر الذين يتشاركون في العناصر الذاتية والرمزية لما يشكل الثقافات، إذ يكتب عالم الاجتماع والمؤرخ المعروف غرينفيلد.. "أن الحقيقة الاجتماعية هي ثقافية بجوهرها وهي بالضرورة حقيقة رمزية أبدعتها المعاني الذاتية للعناصر الفاعلة اجتماعياً وتطوراتها. فالنظام الاجتماعي (أي البنية الكلية الشاملة للمجتمع) يمثل نوعاً من التجسيد المادي أو الموضوعي لصورته التي يشترك في صنعها أولئك الذين يشاركون في تكوينه" (غرينفيلد 1990، 18) كما تبين لدارسين آخرين أن الثقافات السياسية كلها ترتكز على مجموعة خاصة من القيم والمعايير الأخلاقية... لهذا تختلف المجتمعات البشرية من مكان إلى آخر، نظراً لاختلاف ثقافاتها، أي اختلاف قيمها ومعاييرها. فهذه الثقافة مثلاً تركز على الإنجاز والاستقلال الذاتي والفردية، فيما تركز تلك على الغيرية والاهتمام بالآخر والعناية به، بينما تركز ثقافة ثالثة على الكسب المادي والربح فقط، فيما تركز رابعة على الشرف والكرامة... إلخ.‏ من هنا يمكننا القول: تتميز الثقافات وتختلف باختلاف نتاج الإنسان الموضوعي، رموزه ولغته، قيمه والأنماط السلوكية المنظورة التي تحدد هوية هذه الثقافة أو تلك، بيد أن قدرة الثقافة وقوتها تكمنان في ما تقوم به من عمليات فاعلة في عالم الإنسان الذاتي، في لا وعيه، حيث تعطي قوى الوعي واللاوعي هامشاً واسعاً من حرية الحركة والتخييل.‏ إن غنى البعد الذاتي للثقافة وتعقيده يرتفع أكثر فأكثر، لما له من جوانب إدراكية وعاطفية على حد سواء. من هنا، يمكن التفكير بالثقافة على أنها «خارطة الطريق الذهنية» التي تقدم المعرفة والإرشاد للسلوك السياسي. لكن، للثقافة أيضاً امتدادات عاطفية قوية تفسر لماذا يمكن لصدام الثقافات أن يكون بالغ الشدة والخطورة، ونظراً لأن الإحساس الأساسي للناس بهويتهم يتجذر بقوة في مشاعرهم ذات التميز الثقافي، فإن التفاعلات بين عناصر من ثقافات مختلفة قد تكون مشحونة بسوء الفهم وبالتوتر أيضاً.‏ لهذا السبب قال هنتنغتون في «صراع الحضارات» إن النظرة المطمئنة والقائلة إن التحديث والقيم الغربية المرتبطة به سيكتسحان القيم الأساسية للثقافات الأخرى، «إنما هي نظرة زائفة، لا أخلاقية وخطرة». فحسب رأيه «الثقافي والهويات الثقافية، وهي بشكل من الأشكال هويات حضارية، تشكل أنماط التماسك، التفكك، والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة، فالأبنية العالية في نيويورك وبكين قد تبدو متشابهة، لكن القيم الثقافية الصحيحة ونظرات أولئك الناس الذين يقطنونها ليست، بالضرورة، متشابهة».‏ بالنتيجة، الثقافة هي نمط للمعنى يتحول تاريخياً ويتجسد على شكل رموز ومنظومة من المفاهيم المتوارثة، رمزياً، يوصل الناس من خلالها معرفتهم بالحياة ومواقفهم تجاهها، أي هي معانٍ عامة مشتركة وكذلك سلوكات، مؤسسات (دينية واجتماعية)، قيم ومثل، أعراف وتقاليد، أي بالمحصلة، هي نظرة إلى العالم، تفسر لماذا أو كيف يتصرف الجماعات والأفراد على النحو الذي يتصرفون به. هذه النظرة المختلفة إلى العالم تفسر ظواهر وسلوكات معينة، مثلاً: سلوك قائد سياسي في موقف بعينه، ردود الأفعال تجاه أفعال بعينها، الموقف تجاه تهديد خارجي مثلاً... إلخ.‏ لقد أكدت جميع الدراسات أن هناك ترابطاً عضوياً بين الثقافة والسياسة، وبسبب هذا الترابط، فإن التحصيل الثقافي لمجتمع أو جماعة سكانية ما يعزز كل التعزيز فهمنا لسياسة هذه الجماعة، وذلك على الصعد التالية:‏ 1 تحديد الأولوية السياسية: فالثقافة تؤطر السياق الذي تحدث فيه السياسة، إذ تنظم الثقافات سلم الأولويات السياسية للمجتمع، بمعنى أنها تحدد الموضوعات المادية والمعنوية التي يراها الناس ذات قيمة أكبر فأصغر، مثال على ذلك: وحدة الألمانيتين في فترة الحرب الباردة، فقد كانت الثقافة الألمانية تعطي الأولوية لدى كل ألماني لمسألة الوحدة وإعادة توحيد الدولتين اللتين قسمتهما الحرب والمتحاربون، لهذا كان هم السياسيين الأول هو إعادة تلك الوحدة، كذلك الأمر بالنسبة إلى الثقافة العربية التي تضع في رأس سلم أولوياتها تحرير فلسطين ووحدة الأقطار العربية، فإذا ما استطاعت هذه الثقافية أن تجعل من هذه الأولويات أولويات لدى الأنظمة والحكام العرب، فمن المؤكد أن فلسطين ستتحرر والوحدة العربية ستتحقق.‏ 2 تحديد الهوية: فالثقافة تربط ما بين الهوية الفردية والهوية الجماعية، إذ تقدم الثقافة تعليلاً للسلوك السياسي من خلال النظرة المشتركة إلى العالم التي تجعل أفعال الأفراد وممارساتهم متشابهة. الرابطة الحاسمة هنا هي رابطة التماهي التي تجعل أعمالاً معينة مقبولة وأخرى مرفوضة؛ رغم أن الحال قد تكون معكوسة تماماً لدى ثقافة أخرى. فالمقبول يصبح مرفوضاً والمرفوض مقبولاً، وجهة النظر هذه تقول إنه يتم تحريض كل من العمل الفردي والجماعي، ولو جزئياً، من خلال الإحساس بالمصير المشترك للناس ذوي الثقافة الواحدة. هذا الإحساس يتضمن عنصرين:‏ أ التعزيز القوي المتبادل بين الهوية الفردية والهوية الجماعية، مما يجعل السلوك المقر ثقافياً موضع مكافأة.‏ ب شعور المرء بأن الأجانب سيعاملونه هو وأفراد جماعته الآخرين بطريقة متماثلة وهناك الكثير من الأمثلة على هذه الحالة، لو كان هنالك متسع.‏ 3 تحديد الحد والمحافظة عليه: فالثقافة تضع الحدود بين الجماعات وتنظم العلاقات والتفاعلات فيما بينها. هذا التحديد يتم بأشكال شتى ومن خلال وسائط شتى: القرابة، السن، الجنس، المصالح المشتركة... إلخ.‏ 4 الأطر التفسيرية: فالثقافة تقدم الإطار الخاص بها لتفسير أفعال الآخرين ودوافعهم، ذلك أنه في المواجهات المختلفة، غالباً ما يعزو الناس سلوك جماعة أخرى إلى دوافع أو مصالح معينة، انطلاقاً من نظراتهم الخاصة إلى العالم، والأمثلة على ذلك كثيرة أيضاً، لكن لا يتسع المجال لذكرها هنا.‏ 5 التنظيم والتحريك: فالثقافة توفر الوسائل السياسية للجماعات والقادة ذلك أن هؤلاء غالباً ما يحتاجون، من أجل تحريك المجتمع سياسياً، إلى أدوات ووسائل لا توفرها لهم إلا الثقافة، مثال على ذلك: التنظيمات التي تحدد اختلاف الجماعة عن سواها وتميزها، التنظيمات التي توفر التواصل الداخلي للجماعة، التنظيمات التي تقدم الآليات الخاصة بصنع القرار، السلطة اللازمة لتنفيذ القرارات، التنظيمات التي توفر الإيديولوجية السياسية التي تشد اللحمة بين أفراد الجماعة، وأخيراً الاحتفاليات والشعائر التي تربط الإيديولوجية بمشاكل الجماعة الراهنة.‏ ختاماً، إن الاهتمام بهذه الميادين الثلاثة: علم السياسة، علم النفس والثقافة ثم المزج بينها هو الذي أفضى إلى ظهور علم جديد يدعى علم النفس السياسي وهو الذي يبشر إذا ما تطور تطوراً أكبر بأن نفهم فهماً أدق وأوضح سيكولوجيا السياسة في عالم تتعقد فيه السياسة وتشتد غموضاً.‏

No comments:

Post a Comment