Thursday, June 24, 2010

سياسة الخوف

سياسة الخوف
“الخوفُ هو الخيط المشترك الذي يَنْسجُ الحركاتَ السياسيةَ العَنيفةَ سوية . هو لَيسَ الحافز الوحيد وراء العنفَ السياسيَ، ولا بالضرورة الأكثر وضوحاً، لَكنَّه عملياً دائماً هناك. حينما نَسْألُ لماذا يَكْره الناسَ، أَو لِماذا هم راغبون في القَتْل أَو المَوت من أجل قضية ما، الجواب دائماً …. الخوف ”
جيمس ماتيل
لا حاجة لأفلام الرعب:
. ماذا حَدث إلى صوت الشجاعة السياسية اليوم؟ أين الناس الذين لا يهابون المخاطر من اجل ما يُؤمنون به؟ ……. أين هم أولئك الذين يساندون ما يرونه حقا أخلاقيا ، بدلاً منْ مساندة ما قد يكون مناسبا سياسياً؟…… أين هي القيادات التي تمتلك رؤيا اليوم؟ ……..هَلْ هي غيوم السلبية والخوف التي تخيّمُ على سماء البلادِ هذه الأيام و تجعل الناس تتردد في اتخاذ المواقف الصعبة و في الوقوف بوجه السلطة ؟ …..هَلْ هو مناخ الخوف الذي ساد بعد الهجمات الإرهابية في 11/9، أَو أن الأمر أعمق بذلك بكثير؟ ………..هذه التساؤلات طرحتها وبجراءة نادرة الكاتبة الأمريكية “كوني مكلافلين” في عرضها لمجموعة من الكتب التي صدرت مؤخرا في الولايات المتحدة والتي تعالج قضية استخدام الخوف بكثافة لتحقيق الأهداف السياسية.
تشير هذه الكتب إلى إنّ الثقافةَ المنتجة للَخوف في أمريكا أصبحت واسعة الانتشار بشكل رهيب، خصوصاً في أجهزةِ الإعلام حيث أدرك الجميع أن “الخوف يزيد من حجم المبيعات “.
تستطرد ماكلافلين قائلة ” نحن نعيش لحظات رعب يوميا حيث تنهمر علينا العديد من القصص المروّعة حول ما يُمكن أَنْ يؤذينا — كُلّ شيء مِنْ هجوم إرهابي عالمي، إلى استخدام قنابلِ نووية بدائية ضد مُدنَنا، إلى تسميم غذائِنا ومائِنا، إلى تزايد معدلات الإصابة بالسرطان، إلى مدراء الشركات الغشّاشين الذين أضاعوا مدّخراتَ حياتِنا. الإعلام يُرعبنا بآلاف القتلة المجانين واللصوص والمغتصبين (حتى في الكنائس)، بحيث تعالت الدعاوى بأنّ الحَلَّ الوحيد لكُلّ مواطن هو في امتلاك ترسانة مِن الأسلحةَ.” …… وفي نفس السياق تقول الكاتبة بريوني جوردون ساخرة …. “لا حاجة بنا لابتياع تذاكر سينما لمشاهدة أفلام الرعب، فيكفي أن نفتح التلفاز ونشاهد الأخبار”.
الخوف تجربة شخصية:
لا نعلم الكثير عن لحظات الإنسان الأولى على الأرض ولكننا نستطيع أن نجزم أنها كانت مليئة بالمخاطر. ونستطيع أن نجزم أيضا أنه في مواجهة شراسة المخلوقات الأخرى واستبداد قوى الطبيعة لابد وأن هذا المخلوق الضعيف قد تعرف مبكرا على الشعور بالخوف. هذا الشعور الطاغي الذي يعبر عن المعاناة ليُشل القدرة ويخضع الجسد والفكر لحالات من التوتر من مخاطر حقيقية كانت أم وهمية، أكيدة كانت أم محتملة، ليدفع بالسلوك، أحياناً، إلى خارج حدود المنطق. فمنذ تلك اللحظات تلازما الخوف وقرينه الألم وانصهرا في حياة البشرية في مشوارها الطويل من الكهوف حتى ناطحات السحاب. الخوف جزءُ لا يتجزأ من الشرط الإنسانيِ. وهو كعاطفة أساسية بدائية يمكنها أَنْ تُحفّزَ إي شخص ليتَصرف دفاعا عن ذاته بشكل منطقي ومعقول أو يتصرف بشكل لا عقلاني ينتج عنه أخطاراً له وللغير. وبسبب دور الخوف كحافر للسلوك البشري كان من الطبيعي جدا أن يتم استغلاله وبشكل مكثف لتحقيق غايات سياسية. وربما لهذا السبب قلما تعرض استخدامه إلى التدقيق والتساؤل.
الخوف شعور مؤلم وقوي و يُساعد الناسَ على التعرف والرَدّ على الحالاتِ والتهديدات الخطرة. على أية حال، الخوف يكون ايجابيا عندما يكون وقائيا. أما إذا تطور ليصبح خوف مرضي فأنه غالبا ما يؤدي إلى سلوك مبالغ فيه يتسم بالعنف. الخوف هو أقوى المشاعر و أسرعها حدوثا.
الخوف الجماعي:
وبالرغم من انشغال عدد من الفلاسفة والمفكرين بتحليل الخوف ودوافعه وأسبابه وتأثيراته. وتحديد العلاقة بينه وبين النظم السياسية والثقافية والاجتماعية التي تفرزه وتعيد أنتاجه. إلا أن هذه المعرفة قد بقت ، لسوء الحظ، مقصورة على عدد قليل جدا من الناس. و طالما كان الناس غافلين عن كيف يتم التلاعب بعواطفِهم، فهم غير مستعدون أيضاً لمُواجَهة هذا التلاعب. في الحقيقة، يَعتقد بَعْض الناسِ أن عواطفهم محصّنة ضدّ التلاعب، لكن كم هم مخطئون. بالطبع يستفيد السياسيون من مثل هذا المواقف. لأن وجود الخوف سيمنع النقاشات السياسة الجادة. فالجمهور الذي يحس أنه تحت طائلة هجوم شرير — سيدعم كل سياسة تُبنى على عدم التفاهم أو التفاوض مع مصدر الشر. الشرّ يجب أنْ يُقاتلَ حتّى النهاية المرّة كما يشير إلى ذلك الشعار الشهير “ أمّا نحن أَو هم ,” وهكذا يستعمل الخوف كأداة سياسية لتَجَنُّب النِقاشِ السياسيِ ولتفادي الخيارات السياسية الصعبة.
. ومن الكتب الجيدة التي تناولت هذا الموضوع كتاب للكاتب الأمريكي كوري روبين بعنوان ” الخوف : تاريخ فكرة سياسية”.
كان الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه تقدم بها الكاتب لجامعةِ ييل في عام 1999، يَستكشف فيها تاريخ الخوف كمفهوم في النظرية السياسية الحديثة كما يستعرض توظيفه لإدَارَة العمليات السياسية والاقتصادية الأمريكية المُعاصرةِ .
يُعرف الكاتب الخوف السياسي على أنه — ” الخوف الذي يَنبثقُ مِنْ المجتمع أَو الخوف الذي يخلق العواقب للمجتمع. ” مثل المخاوف التي تَنْجمُ عن النزاعات بين المجتمعات (كالإرهاب والحروب) أَو تَنْجمُ عن الأحداث الشخصية (كالتمييز العنصري). فالناس اجتماعيون بالطبيعة، تربطهم القيمِ المشتركة، والدين، و التقاليد، واللغة، الخ. ولكن حينما تصبح هذه الخصائص الأساسية التي تَرْبطُ الجماعات مُهدّدة، فإن هذه الجماعات سَتَخشى زوالها. و كنتيجة لذلك، سَتُحاول التَخَلُّص مِنْ التهديد ، بكل الوسائل المتاحة لها حتى وإن كانت عنيفة أو غير شرعية.
الفلسفة والخوف السياسي:
يستعرض النصف الأوّل من الكتاب أراء و تحليلات عددا من الفلاسفةَ الغربيين مثل هوبز، مونتسكيو، توكفيل ، وارندت للخوف السياسي. يجادل روبن بأن الخوف شغل هؤلاء المفكرين سواء الذين رأوه كعنصر لا يتجزأ من الطبيعة البشرية يجب أنْ يُلجم من قبل الدولة، أو الذين رأوا في نمو الديمقراطية الليبرالية وسيلة لكبحه.
فعلى سبيل المثال، كانت وجهة نظر هوبز أن الخوف من الآخرين ومن الموت يشكل قاعدة للتماسك الاجتماعي (وان غياب الخوف هو أخطر بكثير للمجتمع من وجوده) وهي وجهة نظر تتناقض مع تفسير مونتسكيو للاستبداد، بأنه الحكم عبر الخوف و مطالبة مونتسكيو لليبراليين بالوقوف ضده. أما توكفيل فيرسم صورةَ مبكّرة لغربة الحشود المعزولة: كيف أن المجتمع الديمقراطي الذي لَمْ تعُدْ تحكمه قوَّة استبدادية، يواجه سرعة التغيير وغياب المعايير الاجتماعية بطريقة تجعل الحشود فيه في حالة ارتباك وخوف من الخيارات الصعبة التي تولدها الحريات الفردية، لذا فهي تجد الأمان في التكتل. هذه الحالة من الفوضى الاجتماعية يتكرر وصفها في تحليل حنا ارندت لحكم الحزب الواحد. رغم أنها - كما لاحظ روبن - طورت أرائها هذه أبان محاكمة أدولف ايخمان عام 1961. حين رأت أن شرور النازي أمراً يصدر عن بشر عاديين وليس بالضرورة فعل شيطاني، ونظرت إلى النازية كسياسة معيّنة مِنْ الإرهاب يُمْكِنُ محاربتها، بدلاً مِنْ رُؤيتها كتعبير عن القلق المعاصر بوجه عام.
الخوف كأسلوب أمريكي :
أما في الجزء الثاني فيستعرض الكاتب كيف تم توظيف الخوف في أمريكا لمصالحِ الأقوياءِ : منْ الحقبة “المكارثية” إلى الدور الذي يلعبه الخوف في المجال الاقتصادي ( الخوف من فقدان العمل) إلى التخويف بالإرهاب ..الخ. في هذا السياقِ الأمريكيِ، يَفْحص روبن الخوف كأداة سياسية، ووسيلة لحكم النخبة ويبين كيف يتم خلق الخوف ودعمه مِن قِبل القادة السياسيين أَو من قبل المحرضين الذين يَستفيدونَ منه، أمّا لأن الخوفَ يحقق لهم مكاسب سياسية محددة أو لأنه يَعْكسُ و يَدْعمُ معتقداتَهم الأخلاقية وسياسيةَ — أَو للسببين معا. مثل هذا التحليلِ التاريخي قَدْ يسبب للبعض الكثير من الإزعاج ، ولكن الإزعاج الحقيقي في وجهة نظري يكمن في مقولة روبن أننا نَحْبُّ الخوف ونَرْغبَ في العيش خائفين.
فطبقاً لروبن، يخلق الخوف قاعدة للتماسك الاجتماعي للجماعات والمجموعات السياسية والعرقية ولهذا فإن هذه الجماعات لا تمانع الشعور بالخوف بل حتى بتضخيمه لأنه يحقق لها ذاك التماسك ويحافظ لها على تلك الهوية. مع إنها في نفس الوقت، تدرك بأنّ الخوف وحده غير مجدي في نهاية المطاف كي يحقق تماسكها. هذا التناقض برأي الكاتب يشكل إحدى قواعد الليبرالية الأمريكية: فمن ناحية، شُيدت مؤسسات النظام السياسي على الخوف من سوء استعمال السلطة؛ و من ناحية أخرى أُستعمل الخوف بشكل قد يُقوّضُ التزام هذه المؤسسات نحو المساواةِ والديمقراطية. وهنا يسعى الكاتب إلى تأكيد فكرته أن الخوف قد لعب دورا فعالا في خلق القمع المؤسساتي التي تشكو منه المجتمعات المعاصرة.
وبالرغم من كون الكتاب تحليلا وتفسيرا تاريخيا إلا أن المرء لا يجد عناء في اكتشاف إسقاطاته على واقع أمريكا ما بعد 11/9. فرضوخ النخبة الليبرالية لأجندة اليمين المتطرف ( المحافظين الجدد) ودعمها لسياسياته كاحتلال العراق وأفغانستان و الموافقة على استصدار تشريعات مناهضة لحرية الفرد كقانون الوطنية. وينجح روبن عبر صفحات كتابه في التدليل على أن الخوف عميق الجذور في السياسات الليبرالية ، ويوضح كيف أن الخوف يؤجج شعورها بقيمة الحرية داخل وخارج أمريكا. يستهدف هذا الكتاب جمهوراً واسعاً، ويقدم بأسلوب رشيق في جزئه الأول مناقشة ممتعة (ومكثفة في بعض الأحيان) لفهم الفلاسفةَ السياسيينَ لطبيعةَ واستعمال الخوف، وتزداد متعة القراءة في جزئه الثاني. في تقديري كتاب كوري روين هو إضافة ثمينة إلى هذا الحقلِ المتنامي من الدراسات التي ترى الخوف ضمن سياق الفكر السياسي، وَتتبّعُ العلاقة الوثيقةَ له بالفكر والممارسات السياسية.
تكييف» الذاكرة للتغلب على الخوف
وسائل جديدة لعلاج اضطرابات القلق المرتبطة بالذكريات المخيفة
كمبردج (ولاية ماساشوستس الأميركية): «الشرق الأوسط»* الهبوط الدراماتيكي لطائرة الركاب الأميركية أثناء رحلتها الجوية على مياه نهر هادسون في يناير (كانون الثاني) 2009، وإنقاذ كل ركابها البالغ عددهم 155 شخصا، لم تكن اختبارا لخبرة التحليق الممتازة للطيار وأفراد طاقم الطائرة الآخرين فحسب، بل وأيضا اختبارا لهدوئهم والتفكير المركز لهم، أثناء حدوث الأزمة. ولكن، أثناء مقابلات إعلامية أجريت معهم لاحقا، تحدث قائد الطائرة الكابتن تشيلسي سالنبيرغر وغيره من أفراد الطاقم عن تعرضهم لتكرار ظهور لقطات الأحداث السابقة، إضافة إلى شعورهم بتشتت الانتباه، وصعوبة النوم ـ وهذه كلها أعراض نموذجية تتبع حدوث الصدمة.
تحديات الذاكرة
* ورغم أن سقوط الطائرة يظل نادرا لحسن الحظ، فإن الكثير من الأشخاص يمرون دوما، بأشكال أخرى من التحديات البدنية والعاطفية. وقد تتحول هذه التحديات، جزئيا، إلى صدمات، لأن الشخص يسترجعها ذهنيا بشكل متكرر. وفيما يشفى العديد من الأشخاص من التأثيرات العاطفية الناجمة عن صدمة ما بعد وقوع الحوادث، فإن اضطرابات القلق تظهر لدى آخرين. ويمكن لوسائل العلاج النفسي مساعدة أولئك الأشخاص في التخلص التام من الحساسية المرتبطة بالذكريات التي تثير مخاوفهم. إلا أن هذه الوسائل لا تؤدي مهمتها لكل الأشخاص المعالجين. وتقترح الأبحاث حول تكون الذاكرة، استخدام وسيلتين قد تثمران نتائج جيدة في المستقبل. الوسيلة الأولى هي توظيف الأدوية، أو طرق أخرى لتعزيز العلاج النفسي. أما الوسيلة الثانية فتبدو وسيلة جذرية في بعض جوانبها، إذ إنها تحاول إزالة الجانب المثير للخوف من الذاكرة.
ذكريات «متحركة»
* عرف علماء النفس والباحثون في علوم الأعصاب منذ زمن بعيد أن الذكريات تتشكل على مراحل. ففي البداية تكون الذكريات العاطفية غير مستقرة، إذ إنها لا تشكل أكثر من نسق من الإشارات الكهربائية في الدماغ. إلا انه وعندما تؤدي الحادثة إلى ظهور مشاعر أو عواطف قوية، فإن البروتينات وهرمونات التوتر، والنواقل العصبية، تقوي تلك الإشارات، الأمر الذي يقود إلى تعزيز الذكريات وتحويلها إلى ذكريات دائمة، أو هذا كان هو المعتقد السائد.. حتى الآن.وقد أظهرت التجارب على الحيوانات أن عملية استرجاع الذكريات المخيفة تعيد تنشيط الذكريات نفسها بطريقة تعيدها إلى حالتها البيولوجية غير المستقرة. ولكي تظل تلك الذكريات مستمرة فإن عليها أن تخضع كل مرة لإعادة تعزيزها. أما الدراسات الاستكشافية التي أجريت على مجموعات من البشر، فإنها تفترض أن أمرا ما يؤدي إلى إحداث اضطراب في هذه العملية ـ مثل تناول دواء، أو التدرب على نوع من أنواع السلوك ـ بل وحتى أن الذكريات القوية المعززة يمكن إضعافها أو إزالتها كلية.
تعزيز العلاج النفسي
* ينصب العلاج النفسي لاضطرابات القلق على محاولة تخفيف حدة ردّات الفعل العاطفية لأمر ما يعتبره المريض مفزعا (مثل العناكب أو الارتفاعات). وهنا، يعتبر «علاج التعريض للمخاوف» exposure therapy واحدا من أكثر المنطلقات المفيدة. وهو نوع من العلاج السلوكي المعرفي الذي يساعد المرضى على التدرب على الاستجابة، بشكل مختلف، للمحفزات أو الذكريات المخيفة.
ويشير علماء الأعصاب إلى هذه العملية بوصفها عملية لاقتلاع الخوف fear extinction، أي أنها تمنع حدوث استجابة للخوف. وقد أشارت دراسة حديثة إلى أن عملية اقتلاع الخوف تشمل في الحقيقة، ميلاد ذكريات جديدة.
إذن، فإن كانت عملية اقتلاع الخوف هذه تؤدي إلى ميلاد ذاكرة من «الاستجابات المضادة» الجديدة، فإن تعزيز هذه الذاكرة الجديدة بوسيلة من الوسائل ربما سيساعدها على أن تنتصر في تنافسها مع الذاكرة التي تثير المخاوف. ولهذا قام الباحثون باختبار عدد من الأدوية للتعرف على جدواها مع العلاج النفسي، بهدف تقوية عملية اقتلاع الخوف. وقيمت عدة دراسات استدلالية، فاعلية واحد من عقاقير المضادات الحيوية هو «دي ـ سيكلوسيرين» D-cycloserine الذي يعزز نشاط «غلوتامين»، الناقل العصبي «المحفز على الإثارة» الذي ينشط خلايا الدماغ.
وفي دراسة مراقبة عشوائية مزدوجة خصص عقار «دي ـ سيكلوسيرين» مع الحبوب الوهمية، عشوائيا، لـ28 مشاركا من الذين يخافون من الارتفاعات، قبل حضورهم لجلستين من علاج التعريض الافتراضي لمخاوفهم. وبعد أسبوع من ذلك ظهر تحسن لدى الأشخاص الذين تناولوا عقار «دي ـ سيكلوسيرين»، مقارنة بالذين تناولوا الحبوب الوهمية، وبدا هذا التحسن، وفقا لإفاداتهم، في جوانب مخاوفهم، وكذلك في جوانب التوتر لديهم بعدما أجرى الباحثون قياسات على توصيلية الجلد لديهم. كما قام باحثون في دراسة استدلالية أخرى أجريت على 27 شخصا يعانون من اضطراب القلق الاجتماعي، بإعطاء المشاركين عشوائيا عقار «دي ـ سيكلوسيرين» أو الحبوب الوهمية، قبل ساعة من حضور كل جلسة من أربع جلسات للعلاج النفسي موجهة لتخفيف المخاوف من رهبة التحدث أمام الجمهور. وظهر أن المشاركين الذي تناولوا عقار «دي ـ سيكلوسيرين» شعروا بتخفيف مخاوفهم بعد الجلسات مباشرة، وكذلك بعد مرور عام كامل، مقارنة بالآخرين الذين تناولوا الحبوب الوهمية.
كما استنتجت دراستان استدلاليتان أخريان أن عقار «دي ـ سيكلوسيرين» ربما يساعد أيضا في تحسين استجابات المعانين من اضطراب الوسواس القهري للعلاج النفسي الموجه لتخفيف حدة الهواجس والأعراض الأخرى.
محو المخاوف من الذاكرة
* إلا أن هناك منطلقات مختلفة تتمثل في محو العنصر المثير للخوف من الذاكرة، أو على الأقل إزالة التأثير العاطفي القوي له. ويشير علماء الأعصاب إلى هذه الاستراتيجية بوصفها «إعادة التماسك مع الإضعاف» impairing reconsolidation. ولكن، ولكي تؤدي هذه الوسيلة العلاجية أهدافها فإن عليها أن تكون متزامنة في توقيتها وبدقة كبيرة، بحيث انه يتم تنفيذها أثناء فترة استرجاع الذكريات المختزنة أو بعدها مباشرة، وقبل أن تعود الذاكرة إلى تماسكها مرة أخرى، وهي الفترة التي تمتد لبضع ساعات فقط.
ولأن هرمونات التوتر مثل الكورتيزول تساعد في تماسك الذكريات المثيرة للخوف، فإن الباحثين غالبا ما حاولوا اختبار أدوية «حاصرات بيتا» beta blockers (التي تكافح تأثيرات هذه الهرمونات) باعتبارها وسائل محتملة للتأثير على عملية إعادة التماسك.
وقد أفاد باحثون في جامعة أمستردام نتائج دراسة مراقبة عشوائية وجدت أن دواء «بروبرانولول» propranolol، وهو أحد أدوية «حاصرات بيتا»، بمقدوره محو الذكريات المخيفة. وفي إحدى مراحل تجربتهم المسماة «مرحلة اكتساب الخوف» «fear acquisition» تعرض 40 متطوعا لصدمة خفيفة في كل مرة شاهدوا فيها صورا لعناكب. ولذا فلم يكن من المدهش أن يتعلم المتطوعون بسرعة على الخوف من العناكب، كما أشارت إلى ذلك استجابات «الفزع» التي ظهرت لديهم لدى مشاهدة العناكب مرة أخرى.
وعندما كان المتطوعون نائمين، فإن أدمغتهم كانت تعيد تماسك ذاكرتهم حول الأمور التي تعرضوا إليها أثناء تجربتهم. ويفترض هذا البحث أن قرين آمون hippocampus في الدماغ يساعد في تماسك الذاكرة التقريرية declarative memory (شكل العناكب)، في حين تقوم اللوزة amygdale بالعمل على تماسك الذاكرة العاطفية (العناكب كانت مخيفة).
وفي اليوم الثاني تناول قسم من المتطوعين دواء «بروبرانولول» بينما تناول القسم الآخر الحبوب الوهمية. ثم شاهد جميع المتطوعين صورا للعناكب مرة أخرى، بحيث كان بإمكان الباحثين، بواسطة تجربتهم هذه، إعادة تنشيط الذكريات المخيفة وقياس استجابات «الفزع» لدى المتطوعين. وحتى تلك اللحظة ظهرت لدى المتطوعين في كلتا المجموعتين استجابات «فزع» متقاربة، عند رؤيتهم صور العناكب.
ثم خلد المتطوعون للنوم مرة أخرى. وكان مبدأ النظرية هنا يتمثل في أن دواء «بروبرانولول» سيقوم بالتشويش على المستقبلات الخاصة باللوزة amygdale، وبهذا فإنه سيمنع إعادة تماسك جانب الذاكرة المتعلق بالخوف، إلا أنه لن يؤثر على عملية إعادة تماسك الذاكرة التقريرية في قرن آمون.
وأخيرا وفي اليوم الثالث، شاهد المتطوعون صور العناكب مرة أخرى.
وظهر أن الأشخاص الذين تناولوا «بروبرانولول» كانوا أقل فزعا بكثير لدى رؤيتهم المشاهد المخيفة مقارنة بالذين تناولوا الحبوب الوهمية. كما انعدمت استجابات الفزع لدى البعض منهم. وفي الوقت نفسه فإن المتطوعين الذين تناولوا دواء «بروبرانولول» كانوا يتذكرون لماذا كانوا خائفين من صور العناكب (الأمر الذي يشير إلى أن ذاكرتهم التقريرية ظلت جيدة)، لم يعودوا خائفين (الأمر الذي يفترض أن الذاكرة العاطفية قد تم تغييرها بنجاح).
توقيت العلاج
* إلا أن توقيت العلاج بالأدوية كان أهم الأمور. فقد مرّ 20 متطوعا آخرين بنفس مرحلة اكتساب الخوف أثناء التجارب، وتناولوا دواء «بروبرانولول» في اليوم الثاني من دون مشاهدة صور العناكب مرة أخرى ـ ما يعني أنهم لم يعيدوا تنشيط الذكريات المخيفة. وفي اليوم الثالث شاهد هؤلاء المتطوعون صور العناكب مجددا. وكانوا فزعين مثلما كانوا في مرحلة اكتساب الخوف. وهذا يفترض أن الذاكرة المخيفة يجب استعادتها بطريقة ما، لكي يمكن إرجاعها إلى حالتها البيولوجية الضعيفة قبل أن يتمكن دواء «بروبرانولول» من درء تماسكها. ووجدت دراسة مراقبة عشوائية استدلالية على 19 مريضا باضطراب إجهاد ما بعد الصدمة post-traumatic stress disorder (PTSD) أيضا أن «بروبرانولول» بمقدوره المساعدة في محو المحتويات العاطفية من الذاكرة طويلة المدى المصدومة. وقد خصص باحثون في جامعة ماكجيل أما دواء «بروبرانولول» أو الحبوب الوهمية لـ19 مريضا بحالات إجهاد ما بعد الصدمة المزمنة، لتناولها مباشرة بعد وصفهم للأحداث الأصلية التي أدت إلى صدمتهم. وبعد مرور أسبوع رصد العلماء معدل ضربات القلب، درجة التعرق، والقياسات الفسيولوجية الأخرى كلما استرجع المتطوعون ذكرياتهم عن تلك الأحداث. وظهر أن المشاركين الذين تناولوا «بروبرانولول» بعد إعادة تنشيط الذكريات المثيرة للمخاوف كانت لديهم معدلات أقل لضربات القلب، كما رصدت لديهم جوانب أضعف في التوتر الفسيولوجي مقارنة بالذين تناولوا الحبوب الوهمية.
اتجاهات المستقبل
* نشر باحثون في جامعتي نيويورك وتكساس نتائج دراسة أجريت على الحيوانات، افترضت أن من الممكن التغلب على الخوف باستخدام وسيلة التخلي السلوكي المضبوط في توقيته، بدلا عن الدواء، بهدف محو الذكريات المخيفة.
وبالرغم من أن هذه الدراسات ما زالت في بداياتها فإن الأبحاث تظهر أن يمكن التلاعب بالذاكرة، أي تكييفها، لتقليل الآلام العاطفية.
محو الذكريات المثيرة للخوف
* عملية استرجاع ذكريات مخيفة تعيد تلك الذكريات إلى شكل بيولوجي غير مستقر، يمكن التلاعب به، أي تكييفه.
* وجد الباحثون أن من الممكن في بعض الحالات خفض حدة جوانب الذاكرة المثيرة للمخاوف.
* رغم أن الأبحاث لا تزال في بدايتها فإن بمقدورها تعزيز علاج اضطرابات القلق.
* رسالة هارفارد للصحة النفسية، خدمات «تريبيون ميديا».

No comments:

Post a Comment