Thursday, June 24, 2010

ادلجة الذات و شيطنة الاخر

محمد ديبو / أدلجة الذات وأبلسة الآخر
تتبارى الأنظمة الدكتاتورية وخاصة التي وصلت الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية، في بداية عهدها في الترويج والتطبيل، أن أولى مهامها مكافحة الفساد والتوزيع العادل للثروة، وعادة ما تقوم تلك الأنظمة بحملات محدودة النطاق فتطيح ببعض الرؤوس التي لا تتناسب مع الوضعية الجديدة، وغالباً وما تكون تلك الرؤوس المطاح بها، من الرموز القديمة «الحرس القديم» التي زكمت رائحة فسادها الأنوف فيعطي خبر محاكمتها ارتياح ما في أوساط العامة التي تستبشر خيراً متوهمة أن عهداً جديداً قد بدأ. ولكن نظرة متفحصة لطبيعة تلك الأنظمة تبين أن الأمر أعقد من ذلك بكثير لأن العقد المضمر القائم بين السلطات المستبدة والفساد يكاد يكون عقداً أبدياً بحيث ان زوال أحدهما يعني زوال الآخر بالضرورة، لأن الفساد يعطي النظام المعني ورقته القوية في اللعب بضمائر الناس وإفسادها، وفي تقديم المزايا الخاصة للرؤوس التي تشكل مواقعها خطراً قد يهدد النظام، حيث يعطي النظام تلك الرؤوس مزايا استثنائية الأمر الذي يجعلها تستميت وتستشرس في الدفاع عن الوضع القائم لأنها بذلك تدافع عن امتيازاتها ومصالحها. وبالمقابل يعمل النظام على ديمومة واستمرارية الفساد بحيث يترك الأبواب أمامه مفتوحة ومشرعة باتجاه الإفساد المتعمد، بحيث «يجعل الجميع مدانين تحت الطلب»، وفق تعبير المفكر طيب تيزيني وفق توصيفه للدولة الأمنية، حيث تستخدم السلطة الفساد بأشكاله كافة (فساد مالي، وسياسي، وأمني، وجنسي...) من أجل ترسيخ سيطرتها، وقمع معارضيها، وتفتيت كل تجمع مدني حر، وإفقار الحياة السياسية عن طريق شراء ضمائر المثقفين والسياسيين، وخاصة الضباط ذوو المواقع الحساسة حيث يتم التغاضي عن كل فسادهم وجبيهم اللا مشروع للأموال والسيارات والشقق، مقابل ولائهم الكامل. وبذلك يصبحون جزءاً من بنية النظام نفسها، وكذلك الأمر بالنسبة للمواطنين الذين يصبح جل همهم الوصول لمنصب مهما كان صغيراً يستطيعون من خلاله تحسين أوضاعهم، الأمر الذي يعني أن هذه السلطات لا تستطيع محاربة الفساد ولا تريد ذلك أصلاً لأن هذا يعني حفر قبرها وإقصاءها من موقع الحكم، لأن تقليص حجم الفساد يعني توزيعا عادلا بشكل ما للثروة، ولجم يد السلطة عن شفط أموال الناس واستخدامها بما يديم سيطرتها.إن شعار محاربة الفساد في النظم الشمولية ونظم الاستبداد هو مجرد شعار طالما أن بنية هذا النظام ستبقى محاصرة بمنظومة قوانين الطوارئ، وحالات الاستثناء، وغياب الحرية وعدم وجود قانون عصري للأحزاب، ذلك لأن الاستثناء والفساد مترادفان أيضاً لا يستمر أحدهما دون الأخر، عندما تستثنى الغالبية من ميزات معينة تمنح لأقلية معينة نتيجة قرابتها السياسية أو العائلية من السلطة، الأمر الذي يعني أن محاربة الفساد لا يمكن أن تكون جدية دون إلغاء قوانين الطوارئ وحالات الاستثناء التي تمنح النظام شرعيته المفقودة شعبياً.غالباً ما يطرح أفراد السلطة، خصوصا في العالم الثالث، الواصلين حديثاً إليها شعار مكافحة الفساد، وبعضهم يكون صادقاً، فيبدأ بحملات إصلاحية محدودة هنا وهناك لمحاولة تصويب الوضع القائم قليلاً، وليعطي النظام الجديد نفسه شيئاً من الشرعية، ولكن حتى هذا الإصلاح الجزئي قد يقوم بتعميق الفساد أكثر مما يحده لأنه ينطلق في محاربة الفساد من زاوية ضيقة لا ترى الجذر الحقيقي للفساد وهو طبيعة النظام وآلية عمله المفرخة للفساد بأشكاله كافة، فتعمل هذه الإصلاحات على خلخلة البنية الراكدة لنظام لا يحتمل الخلخلة أساساً، الأمر الذي يوضح لنا تراجع أغلب هذه النظم عن شعاراتها في مكافحة الفساد لأنها تستشعر مدى خطر هذا الأمر على بنية النظام المتعيشة على الفساد، فيغدو إصلاحها بعد ذلك هو مجرد استبدال أشخاص اتخموا من النهب، وغالباً ما يتم نقلهم لأماكن دنيا، بأشخاص جدد جيوبهم مجهزة لتعبأ.إن شعار محاربة الفساد لا يمكن أن يطرح بعيداً عن منظومة كاملة من الإجراءات أهمها الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، لأن محاربة الفساد تأتي ضمن هذه المنظومة ولا يمكن لها أن تنجح خارجها حيث أن حالات الاستثناء، واليد المطلقة للسلطة، وتغييب القضاء (وهي الركائز الأساسية لتغلغل الفساد وترسخه) لا يمكن أن تبتر إلا من خلال الديمقراطية التي تعطي الجميع حقوقاً متساوية، وتحد من تدخل السلطة، وتُخضع الجميع لمبدأ القضاء، وهذا الأمر يستحيل تحققه في نظم استبدادية تسعى للسيطرة أكثر مما تسعى إلى تحقيق مطالب مجتمعاتها وترسيخ قيم الديمقراطية، والحرية، والعدالة الاجتماعية.

نماذج الديمقراطية وأزماتها
دراسة في جدلية العلاقة بين الفرد والدولةوفق النظام السياسي الديمقراطي

علي عبود المحمداويمدرس الفلسفة المساعد في كلية الآداب – جامعة بغداد
نماذج الديمقراطية وأزماتها
الأنظمة السياسية وعلى مر الأزمنة، لم تكن (في يوم من الأيام وعلى مستواها التطبيقي) ، قد استطاعت أن تحقق آمال أفرادها المتطلعين دوما إلى المثال فيها ، والعدالة لهم ، والتمتع بحقوقهم وحرياتهم الفردية والجمعية ، لذلك كانت مهمة النظام السياسي
* لصيقة بالفشل أو عدم الرضا أو فقدان الشرعية (إلا ما ندر) ، وبقدر ما يتضح فساد الكثير من تلك الأنظمة السياسية كالاستبدادية الدكتاتورية ، أو ملكيات الحق الإلهي ، أو ارستقراطيات الخواص والامتيازات ، أو الأنظمة العسكرية والتطلع للأمجاد والشرف على حساب شعوب تلك الأنظمة ، إلا إن النظام البديل الذي يعرض في كل مرة (بعد كشف زيف نظام سياسي أو عدم أهليته ) هو النظام الديمقراطي في محاولة للخلاص ، وكأن الديمقراطية هي ذلك المثال وتلك العدالة وتلك الضمانة للحقوق والحريات ، وإيمانا منا بذلك أيضا ، فإنه يستوجب البحث في إمكانية أن يكون النظام الديمقراطي هو البديل الصحيح والأصلح ، ودراستنا هذه تركز على أنواع الديمقراطيات وموضوع الأزمات أو المشاكل الرئيسية التي يمكنها أن تعتري النظام الديمقراطي مما يجعله قد لايمثل تلك الطموحات .

نماذج الديمقراطية :هنالك العديد من النماذج الديمقراطية وقد يخضع تقسيمها وتعدادها لمعايير مختلفة ، ومعيار تقسيمنا هو التقابل بين الفرد أو المجتمع والدولة ، أي مدى تمثيل النظام الديمقراطي لإرادة مواطنيه وأفراده ، وذلك في جدل سيادة الشعب والدولة ، وكيف يمكن تحقق كل منهما عبر الآليات الديمقراطية داخل أي نموذج منها ، وبقدر ماهنالك من اختلافات في نماذج الديمقراطية ، فإنه يوجد مشتركات يمكن تلمسها في اغلب نماذج الديمقراطية ،وتشكل في إطارها العام ايجابيات
** وأزمات للمفهوم العام للديمقراطية ومحاولة تطبيقها . وقبل الشروع في تشخيص تلك الأزمات ، نرى من الحري بنا أن نذكر أهم النماذج الديمقراطية عبر التاريخ والإطار النظري الفلسفي لشكل الحكم حسبها .النموذج الأول : النموذج الأثيني وهو الديمقراطية المباشرة ، هو النموذج السائد لفترة ليست بالهينة على مستوى الأهمية ، فقد كانت مثال الديمقراطيات عبر التاريخ ، والاستنارة التي وجدت الشعوب( الراغبة في التحرر) فيها المنار والمشعل ولحظة الخلاص .وكانت هذه الديمقراطية تجعل من الشعب هم الحُكّام والمَحكُومين في الوقت نفسه وذلك عبر المقولة الشهير ( حكم الشعب نفسه بنفسه) ، فالشعب هو مصدر كل السلطات وهو ممارسها ، وهو المراقب لها والمحاسب عليها .وامتازت هذه الديمقراطية بكونها تعتمد آلية التصويت المباشر في قراراتها في الشأن العام ، كما من خصائصها إنها كانت في إطار جغرافي صغير نسبيا يسمح بممارسة الشعب الصغير بدوره من ممارسة حكمه لنفسه بنفسه .و من ابرز المشاكل التي تؤشر عليه هو مفهوم المواطنة الذي اقتصر عل نسبة قليلة من الشعب وذلك باستثنائه للعبيد والأجانب والنساء من التصويت وممارسة الحكم ، وذلك لمبررات منها إن المجتمع الأثيني مجتمع ملاك وعبيد ولا امتيازات حينها للعبيد ، كما إن قضية المرأة كانت لا تشكل أهمية ولا يعتد بوجودها كمساهم في الحياة السياسية أو الشؤون العامة ، أما اليوم فقد دخلت كفاعل رئيس وكمواطن يتمتع بكل مزايا المواطنة من الحقوق والواجبات ، بل تعدى الأمر إلى محاولة تعويض عما فاتها من خلال الحركات النسوية والمطالب الخاصة النسائية وليس المواطنية .النموذج الثاني : الديمقراطية الجمهورية وتعرف الجمهورية على إنها "الحكومة التي يكون فيها للشعب بمجموعه ، أو بممثلين عنه ، حصة أساسية في السلطة" ([1]) والديمقراطية الجمهورية هي النظام الذي يقوم على أساس انبثاق السلطة عن الشعب أو ممارستها من قبله مباشرة أو بواسطة الانتخاب والاختيار، وبذلك فإن مفهوم الأمة والتجانس يلعب دورا أساسيا فيها ، وبمعيار الأغلبية في التصويت دون المراعاة أو الأخذ بعين الاعتبار مسألة الأقليات وحقوقها ، أو محاولة إذابة واقع الأقلية مع توجه الأغلبية لتحقيق رأي الشعب الذي سيكون بدوره رأي الأغلب ،([2]) لذلك اتهم بكونه دكتاتورية الأغلبية وفي هذا النقد كلام كثير ونحن لا نتفق معه ،وعليه فهي تبحث عن الروح والإرادة الكلية الجمعية التي تمثل الشعب ورأي أغلبيته أن لم يتحصل الإجماع.والديمقراطية الجمهورية بدورها تنقسم إلى قسمين هما: الحمائية و التنموية ، ويقصد بالجمهورية الحمائية هي مشاركة الشعب في الحكم لأجل حمايته من استبداد الآخرين عليه ، والمشاركة السياسية شرط أساسي من شروط الحرية الشخصية وهي في سبيل توازن القوى بين الشعب وامتيازات الملوك وارستقراطيين، أما التنموية فهي مشاركة الشعب عبر تنمية تلك المشاركة وعبر فصل السلطات وإمكانية محاسبة الحكام دعما لسلطة الشعب وزيادة في وعيه بالمطالبة بالحرية واستقلال تقرير المصير .النموذج الثالث : الديمقراطية الليبرالية وهي على عكس الجمهورية في مسألة الأغلبية فقد دعت إلى المطالبة ومحاولة إشراك الأقليات في الحكم عبر تقسيم السلطات أو عبر تفعيل آلية المعارضة الوفية أو الموجهة ، وهي في حقيقة الأمر تقضي بالاهتمام بحقوق الأفراد كأفراد وليس كشعب أو امة أو أغلبية ، لذلك يكون مفهوم الأقلية حاضر ويعد حجر الزاوية في التنظير الليبرالي ، ويجب أن لايفهم من ذلك أن حق الأقلية هذا يؤخذ بإقصاء الأغلبية أو انتقاص حقوقهم بل عبر برامج تفعيل دورهم ومحاولة تمكينهم من الحكم سواء الوطني أو المحلي ، وهي في أصلها قائمة على المعيار الاقتصادي وملكية الفرد ، وكذلك هي تنقسم إلى قسمين هما الليبرالية الحمائية والليبرالية التنموية .فالحمائية نابعة من كون المواطنين "بحاجة إلى الحماية من الحكام كما من بعضهم البعض"([3] ) إذ يكتسب الفرد أهمية خاصة في الليبرالية كما هو الحال عند فلاسفة عصر التنوير والذين تبنوا فكرة العقد الاجتماعي مثل. وتتم حماية حقوق الأفراد في الديمقراطية الليبرالية بتضمينها في الدستور ولذلك تسمى أيضا بالديمقراطية الدستورية ([4] )، والتنموية تدعي وجوب الدخول في الحياة السياسية ليس للحماية فقط ،بل لإيجاد كتلة مواطنين مطلعة وملتزمة ومتطور ونامية ، وذلك عبر إشراك المواطنين في مختلف فروع الحكم ولاسيما الحكم المحلي ، وترسيخ حقوق الأفراد المتعلقة بحرية الفكر والذوق والمناقشة والنشر ،وعلى العموم فإن الليبرالية تقوم على الإيمان بالنزعة الفردية القائمة على حرية الفكر و التسامح و إحترام كرامة الإنسان و ضمان حقه بالحياة و إعتبار المساواة أساسا للتعاون و منطلقا لإحترام الأفراد وضمان حريتهم و لا يكون هناك أي دور للدولة في العلاقات الإجتماعية أو الأنشطة الإقتصادية إلا في حالة الإخلال بمصالح الفرد و المجتمع ، و تقوم الليبرالية أيضا على تكريس سيادة الشعب عن طريق الإقتراع العام و ذلك لتعبير عن إرادة الشعب و التخلص من الفساد في المجتمع و إحترام مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية و القضائية و التنفيذية و أن تخضع هذه السلطات للتعديل من أجل ضمان الحريات الفردية و للحد من الإمتيازات الخاصة و رفض ممارسة السيادة خارج المؤسسات لكي تكون هذه المؤسسات معبرة عن إرادة الشعب وبالتالي كون الدولة محايدة وعلى النظام أن يعتمد آلية السوق الحرة .النموذج الرابع : الديمقراطية الاشتراكية ، يعد لينين قائد ثورة أكتوبر الإشتراكية هو من وضع أسس الديمقراطية الإشتراكية حيث أن لينين رفض فكرة الديمقراطية البرلمانية بشكل قاطع معتبرا أن وجود أقلية لا تتجاوز خمس مئة شخص تمثل الشعب تضع مصالح الشعب بيدهم وهم عدد قليل من الممكن شرائهم ويصبحون جزء من الحكومة بشكل غير مباشر ورفض مبدأ فصل السلطات الذي كان سائدا في الدول التي تعتمد الديمقراطية البرلمانية وكانت التجربة اللينينية في تطبيق الديمقراطية هي وضع سلطة تنفيذية تشريعية واحدة بدون فصل تسمى مجلس السوفييت الأعلى وكلمة سوفييت تعني الشورى أي أن الاسم العربي كامل مجلس الشورى الأعلى ويتم انتخاب هذا المجلس بشكل هرمي حيث تبدأ الانتخابات من مجالس السوفييت إنطلاقاً من الأحياء وثم مجالس أعلى تنتخب من مجالس الأحياء وهي مجالس المناطق والقرى وهكذا لتصل إلى المجلس الأعلى للشورى لكن مع ولادة التجربة بدأت تنهشها البيروقراطية وتحول ممثلي الشعب إلى قيادات ثابتة لمدة أربع سنوات فكتب لينين لقد تحول ممثلي السوفييت إلى برلمانيين لا يتم تغييرهم إلا كل أربع سنوات لذلك يجب أن يكون عضو السوفييت قابلا للسحب أي تحويل مجالس السوفييت إلى مؤتمر مفتوح ليكون كل منتخب قابل للمراقبة والسحب عندما يفقد ثقة ناخبيه مباشرة دون انتظار المؤتمرات ([5]) وهنالك دعوات معاصرة ونماذج خليطة من الأنظمة السياسية تحاكي معنى الديمقراطية الاشتراكية .النموذج الخامس : الديمقراطية الشيوعية ، ويقصد بها الممارسة المباشرة للشعب للحكم الذاتي حسب ماركس والذي تتحقق مع المجتمع اللاطبقي ، وهو المجتمع الشيوعي لسعيد الذي يطمح وينظر له ماركس عبر مسير تاريخية من كدح البروليتاريا أو الطبقة العاملة من مناهضة النظام الرأسمالي وإقامة النظام الاشتراكي ومن ثم دكتاتورية تلك الطبقة البروليتارية وبعدها إلغاء الدولة بإعتبارها أداة للهيمنة والسيطرة وبالتالي إعلان المجتمع الخالي من الهيمنة والاستغلال والخالي من التفاوت الطبقي وحينها تكون الديمقراطية الفعلية لان الشعب ككل يَحكِمون ويُحكَمون لكن حسب آلية (جميع الشؤون العامة مدارة جماعيا) وذلك عن طريق الإجماع كمبدأ في اتخاذ القرارات حول سائر القضايا العامة ، وهنالك من يتهمها باليوتوبيا أو الخيال ، وانه على الرغم من كل الصرامة العلمية المتوخاة في المنهج الماركسي إلا انه في تنظيره لنهاية تطور المادية التاريخية قد دخل في حذر منه وهو اليوتوبيا .كل ماسبق كان قبل بزوغ فجر القرن العشرين الذي حاول أن يتجاوز يوتوبيا الأنظمة أو فوضويتها أو أزماتها فأنتج بدوره التاريخي انساقا أخرى من النماذج الديمقراطية كان أهمها :النموذج السادس: الديمقراطية النخبوية التنافسية، يعتقد أصحاب هذا الرأي انه يجب استبعاد الأفكار التي تقول ان الشعب متمتع بخيارت عقلانية حول جميع المسائل السياسية ، أي انه يستطيع ان يبدي رأيه في مواضيع الشأن العام مباشرة أو عن طريق ممثليهم ، وهذا كله ليس من مهام الشعب لان مهامه محصورة بالية انتخاب الرجال القادرين على اتخاذ القرار .وعليه فالديمقراطية هي منهج سياسي يعتمده الشعب كناخبين للقيام دوريا بالاختيار بين مجموعات، قيادية، نخب ، متنافسة .وعليه تصبح الأحزاب هي المسيطرة على السلطات في الدولة ، ويكون الناخبين عبارة عن مجموعة ضعيفة الاطلاع أو عاطفية ،ويكون الحكم فيها مركزيا بجهازه التنفيذي القوي ([6]) ، في حين يسوق هذا الاتجاه الرأي نحو كون الديمقراطية ليست بطريقة حكم وإنما طريقة لتحديد الحكم واختيار الحاكمين ([7])النموذج السابع: الديمقراطية التعددية ، ويمكن عدها فرعا من النخبوية السابقة إلا إن الفرق هو إن النخب التي تنتج عن المساومات والانتخابات كفئة قائدة ، هي جزء من الوعي والقيم المجتمعية للأمة أو الشعب وليس بالمعنى السابق على أنها تمثل فكرة الأبطال وإنهم يتخذون مايرونه بأنفسهم صالح ؛لا ، هنا الأمر يختلف بحيث أن مايقروه هو مايعبر المنظومة القيمية والإرادية للمجتمع ، وعليه فانهم حينما يقررون لايقررون بمفردهم بل بحضور معنوي قيمي لكل الناخبين للممثل .وهنالك نوعين من هذه الديمقراطية هي التعددية الكلاسيكية والتعددية الجديدة ، والفرق قليل بينهما يمكن تشخيصه ، الجماعات في الكلاسيكية تهدف إلى تقاسم السلطة بما يخدم مصالح المتنافسين ، أما في التعددية الجديدة فهي صراع من اجل السلطة ، في الكلاسيكية السعي إلى النفوذ السياسي والقوة المعنوية عبر محاولات تحصيل الشرعية النظمية أو الشعبية بواسطة جماعات الضغط ، إلا انه في النيو تعددية جماعات الضغط فيه تسعى إلى برنامج سياسي منحاز لمصالح الشركات ي خضوع السياسة إلى الاقتصاد .([8])النموذج الثامن: الديمقراطية القانونية ، تقر هذه الديمقراطية بفاعلية مبدأ الأكثرية أو الأغلبية وهي ترى انه يبقى أكثر أسلوب فعالية ورغبة لدى الأفراد ، إلا انه يجب يتقيد بسيادة القانون ، (سيادة القانون على الكل ).فالديمقراطية ليست كذلك إذا أعطت إرادة سائبة للأغلبية ([9] ) ومن سماتها أنها دستورية وتؤمن بمبدأ فصل السلطات ، وعلى الدولة أن لاتتدخل في الحياة الخاصة إلا بأدنى حد مع الضرورة ، المبادئ التي تقوم عليه هي ليبرالية ، إلا إنها تحاول أن تقيد كذلك دور جماعات الضغط والمصالح وتقليص الأخطار الناجمة عن النزعات الجمعية ، وعلى ذلك فهي مزاوجة بين الجمهورية والليبرالية عبر التأطير بالقانون .النموذج التاسع ديمقراطية المشاركة ، ويقصد بها النظام الديمقراطي القائم على الشعور بالكفاءة السياسية التي تغذي الاهتمام بالمشاكل الاجتماعية ، ويساهم في تشكيل كتلة من المواطنين مطلعة وقادرة على الاهتمام الدائم ، وبذلك تكون مشاركة المواطنين مباشرة في تنظيم المؤسسات الاجتماعية ، محاولة إلقاء البيروقراطية لأنها تمثل الأشخاص الذين يصعب محاسبتهم في الحياة العامة والخاصة أو تقليصها للحد الأدنى ، دعم المرأة كمشاركة فعالة جنبا إلى جنب مع الرجل ،([10]) وقد يتهم هذا النموذج أيضا بالمثالية في كونه يصعب تطبيق فعالية المواطنين الواعين والمتطلعين إلى حلول المشاكل الاجتماعية ، إضافة إلى صعوبة القضاء على الجهاز البيروقراطي الذي يمثل عماد الدولة الحديثة ، .النموذج العاشر: الاستقلال الديمقراطي ، يعني الاستقلال "قدرة البشر على المحاكمة بوعي ذاتي ، على أن يكونوا متحلين بصفة تأمل الذات وعلى أن يكونوا قادرين على تقرير مصائرهم "([11] )،ويرى أصحاب هذا الرأي انه لايمكن تحقيق الاستقلال الديمقراطي إلا من خلال إعادة التفكير بفعل الدولة وإمكانية محاسبة فعل الدولة من جهة ومن جهة أخرى إمكانية المجتمع على القيام بهذا الدور عبر التنشئة الديمقراطية ، وذلك يتطلب عمليتي إصلاح وتنمية ؛ إصلاح للمؤسسة السياسية وتنمية للمجتمع المدني ، وذلك يستدعي أن تكون هنالك حقوق متساوية للمواطنين ، وذلك من اجل تقرير أحوال حياتهم الخاصة ، وكذلك دعم دستوري لمسألة الاستقلال .* وكل ماسبق يمكن تفعيله عبر استحداث آليات ديمقراطية جديدة من محاكم المواطنين وتغذية الناخبين الراجعة ، لتعزيز فعالية المواطنين([12] )وهنالك نماذج أخرى مثل النموذج الكوني والنموذج التداولي ، وكلاهما يمكنهما أن يأخذا بعدا اكبر من بعد الدولة القومية أو دولة الأمة الحديثة ، نحو فضاء أوسع هو العالم ككل ، لذلك اتسمت بكونها أممية وكونية ، والنموذج الكوني يعرضه ديفيد هيلد في كتابه نماذج الديمقراطية الجزء الثاني ، والديمقراطية التداولية هي مايتبناه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ويقيمها على البعد اللغوي وأخلاق النقاش بين المتحاورين العقلانيين الهادفين إلى التوافق حول الشؤون العامة بما فيه شكل الحكم وآلياته .النموذج البديلالنموذج الحادي عشر : الديمقراطية التفاعلية ، ونرى انه يمكن تطوير نموذج للديمقراطية ، يحاول تلافي ضبابية التنظير أو صعوبة التطبيق التي أوردتها النماذج السابقة ، وذلك بما اسميه نموذج الديمقراطية التفاعلية وهي في نوع منها انجاز لنموذج الاستقلال الديمقراطي وديمقراطية المشاركة ، إلا إنها تختلف بميزات عدة نظهرها تبعا في الدراسة ،وتظهر أهمية نموذجنا لأنه "ينبغي تأكيد حقيقة إن محاولة تطوير تصور ديمقراطي للخير السياسي – الحياة الصالحة محددة في ظل شروط حرة ومتساوية للانخراط السياسي - لا تقدم أي علاج سحري لسائر المظالم ، الشرور والأخطار ، غير إن مثل هذه المحاولة ترسي بالفعل أساسا صلبا للدفاع عن عملية الحوار وصنع قرار عامين بشأن قضايا عامة وتقترح طرقا مؤسسية لتطور مثل هذه العملية "([13])وعليه فالنموذج المقترح هو إمكانية تفاعل المواطنين الأحرار الذين ينتجون نظاما ديمقراطيا يتسم بالية الاقتراع وتقسيم السلطات ، ووجود جماعتا مصالح وضغط ورأي عام يتشكل في بيئة تمثل مطالب أولئك المواطنون لغرض تحديد معالم السياسة العامة الصادرة من قبل النظام الديمقراطي ، ومن ثم فإن النموذج الديمقراطي التفاعلي يقضي بدوره بتفاعل السلطات ( النظام السياسي) بالاستجابة لتلك المطالب لتحويلها إلى تشريعات وقوانين تمثل دسترة وشرعنة لفعل مجتمع المواطنين الأحرار الفاعلين ، وعليه يكون الحكم يمر بالسلطة باعتباره أداة بيد المواطن ومن اجله وبسببه تشكلت ومارست فعلها ، وينتظر المواطنون الفعالون نتيجة تلك التشريعات والنصوص القانونية إن كانت تلاءم ماصبوا إليه وتمنوه وارتجوه ، فإن لم يحقق مطالبهم ، عادوا به وردوه إلى سلطتهم لغرض تحقيق الانسجام من جديد وهذا فحوى التفاعل .ويمكن أن نقول إن الإيحاء بهذا النموذج كان نابعا من نظرية ديفيد أوستن في النظرية النظمية في الدراسات السياسية ، والتي أقامها لغرض وصف وتفسير سلوكية النظام السياسي عبر آلية المدخلات In puts والمخرجات Out puts.([14]) كما ن هذه الفعالية ( بين المجتمع والدولة ) يمكنها أن تستخدم فكرة المجالس المواطنية وهي مجالس تكون موزعة جغرافيا داخل الدولة لغرض تحقيق الفاعلية وهي ميدان حر لتبادل وجهات النظر ومناقشة المطالب ، والقوانين والتشريعات الصادرة عن السلطة السياسية ، كما ولها حق تقييم وتقويم أداء وسلوك النظام السياسي ، ولها الحق في تبني مواضيع تقدم إلى السلطة القضائية على إنها انتهاك لحقوق المواطنين أو خرق لآلية الحكم المفترضة ، ولهذا لايقتصر دور النموذج في مخاطبة السلطتين التنفيذية والتشريعية بل إن القضائية تكون بتماس مع المواطن عن طريق النظر في مطالبه وتوفير نوع من التغذية الاسترجاعية الكفيل بمراجعة الأحكام الصادر كمحكمة مواطنية للتمييز ( بإطار قانوني موكول تشريعه للسلطة التشريعية ) وذلك مايسوغ لـ"مبدأ التشريع المستمر" ([15]) الذي يستدعي الفاعلية المطلوبة للمواطنين والدولة ، كما انه يجب أن تمنح صلاحية للشعب عبر استفتاءات أو قرارات المجالس المواطنية في إعفاء النواب وفصلهم إذا لم يستطيعوا أن يحققوا مطالب جمهورهم .



الديمقراطية التفاعلية


والفرق بين هذا النموذج ونموذج أوستن هو زيادة المحاكم والمجالس في خانة المطالب وتقييم الأداء والخطابات السياسية والبرامج الحكومية في استجابات النظام ، وإمكانية الصلة بين المواطن وكل السلطات بالمطلب والتقييم والتقويم للأداء وهذا مالم يعره أوستن أية أهمية .أزمة الأنظمة الديمقراطيةهنالك جملة من الأزمات التي تعتري النظام الديمقراطي ، إلا انه يمكنني إيجازها بأزمتين ومشكلتين رئيسيتين ، تتفرع منها كل المشاكل الأخرى . و هما :الأولى : أزمة الشرعية : ويمكن تلمس آثار هذه المشكلة منذ نشوء الأنظمة الديمقراطية وعلى مر تاريخها ، فكانت شرعيتها منقوصة لأنها لم تشرك النساء ولا الأجانب ولا العبيد حينما أصبح عدد المواطنين قليلا مع الديمقراطية المباشرة الأثينية ، ولم تستطع تجاوز هذه المشكلة الديمقراطية الجمهورية الرومانية ، لأنها لم تستطع التخلص من نظام الامتيازات ، إلا أن الانعطافة الكبرى ظهرت مع العصر الحديث وفلاسفة العقد الاجتماعي الذي نادوا بوجود حقوق طبيعية بما فيها المساواة والحرية ولذلك كانوا أحرارا متساوون ، ووجود أولئك الأفراد سابق للتنظيم السياسي وعليه فهم حينما يشكلوه ، يشكلوه حسب ما يرجون وعليه يمتاز بنوع من الشرعية ، إلا إن المستوى النظري لم يستطع أن يجد له واقع ممارسة وتطبيق ، وعليه فالأزمة لم تحل ولم تنتهي لأنها لم تستطع أن تجد لها سبيلا في ارض الواقع ، وحاول الجمهوريين مع روسو أن يعملوا انعطافة أخرى نحو الإرادة العامة والجمعية لغرض توسيع آلية الديمقراطية المباشرة من المدينة إلى الدولة أو الأقاليم وعليه كانت محاولة لحل الأزمة عبر إنشاء مجالس جمعية تمثل تلك الإرادة وتعطى السلطات بيدها وهي تمثل الجميع وهم يخولون من يشاءون لإدارة الحكم كسلطة تنفيذية مخولة ومراقبة وحينما تخطيء تقال ، إلا إن الأمر واجه صعوبة التحقيق هو الآخر إذ إن تطبيق هذا النموذج وسيادة الشعب بهذه القوة لم تر النور لليوم .ومع الديمقراطيات الاشتراكية والشيوعية لم تستطع أن تتجاوز المحنة لأنها وقعت في مشكلة الاستبداد الحزبي والطبقي ، وعليه انتقلت من حيز الأنظمة الديمقراطية إلى الأنظمة الدكتاتورية ، ومع نظريات القرن العشرين والتركيز وبوضوح وعلانية أكثر لمسألة الشرعية ، وكيف ادعى البعض إن الاقتراع هو أول مراحل منح الشرعية ، إلا إن استمرارية الشرعنة هو دوام رضا مواطني ذلك النظام ، وذلك صعب المراد والتحقيق ، وعليه بقى موضوع الشرعية هو الذي يدعم محاولات إعادة التنظير لنماذج جديدة من الديمقراطية ، ويمكنني أن ادعي إن الديمقراطية التفاعلية إن تحققت وهي ممكنة التحقيق ستعالج بنسبة مشكلة الشرعية عبر المجالس المواطنية وبرنامج المدخلات والمخرجات . وتنبثق عن هذه الأزمة أزمات أخرى مثل التمثيل النسبي ومشكلة تمثيل الناخبين الذي لم يستطع مرشحيهم من الصعود إلى قبة البرلمان فبالتالي يصبح المواطنون بلا ممثل وعليه فهو غير مشارك في السلطة وسيغيب حينها معنى أي سيادة شعبية .

الثانية : أزمة الدافعية : وهي أزمة يمكن بجزء منها أن تنسل وتتفرع من مشكلة الشرعية، (بسبب عدم الرضا تجاه النظام السياسي واليأس منه يؤدي إلى رفض المشاركة بأي شكل من الأشكال معه ) إلا إننا نجعلها مستقلة لكونها تمثل العجز في الجانب المواطني أو جانب الناخبين ، في مقابل الدولة وأزمتها ( الشرعية) .وتتلخص أزمة الدافعية في إضعاف دافعية الناس للمشاركة مشاركة فاعلة في النظام على أي وجه من الوجوه.. ومن أسبابها تنامي قوة الدولة البيروقراطية والذي يؤدي إلى ضعف إمكانية المشاركة المثمرة في عملية اتخاذ القرار ، عبر المؤسسات الديمقراطية كالأحزاب أو الانتخابات (
[16]) ومن أسبابها عدم إيمان المواطنين بنموذج الحكم أو عدم الوعي به من جانب ومن جانب آخر فشل النظام السياسي في تلبية مطالب المواطنين ويزداد سوءا حينما يواكب المواطن نفسه أكثر من تجربة ديمقراطية ويكون الفشل أو العجر هو حليفها ، فذلك يقود كنتيجة مقبولة في أعظم الحالات إلى صنع نوع من النفور واللامبالاة بالعملية السياسية بل النظام وبمختلف نماذجه ، ومن أهم أعراض هذه الأزمة الحركات الطلابية والنقابية وبعض النصوص الفلسفية والفكرية التي تنظر باتجاه فشل النظام الديمقراطي وضرورة استبداله ، وعليه كان نموذج الديمقراطية التفاعلية نموذج محاولة أيضا للقضاء على إمكانية أن تكون هنالك أزمة دافعية عبر مشاركة المواطنين الفعالة .* النظام السياسي : هو نظام اجتماعي وظيفته إدارة موارد المجتمع استنادا إلى سلطة مخولة له وتحقيق الصالح العام عن طريق سن وتفعيل السياسات. و النظام السياسي: في صورته السلوكية هو تلك المجموعة المترابطة من السلوك المقنن الذي ينظم عمل كل القوى والمؤسسات والوحدات الجزئية التي يتألف منها أي كل سياسي داخل أي بناء اجتماعي. والنظام السياسي: في صورته الهيكلية هو عبارة عن مجموعة المؤسسات التي تتوزع بينها عملية صنع القرار السياسي وهي المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية** من الايجابيات ، الصفة العامة لدور الشعب في الحكم ، وتسيده على أموره وشؤونه الخاصة ، وحقه في التصدي لإدارة شؤون العامة ..
إذا كانت السياسة العامة تعني : ماتقوم به الحكومة أو تعتزم القيام به لحل مشكلة عامة تواجه المجتمع ، أو لتوفير حاجات يتطلبها المجتمع أو لتحقيق أهدافه أو حلول مشاكله (
[1]) ، فانه يتحتم علينا أن نقر بتأثير الرأي العام على السياسة العامة في تحديد برامجها وموضوعاتها وعليه يمكن القول أن الرأي العام يمثل هنا مرحلتين الأولى تمثل المطالب كسبب لرسم السياسة العامة والمرحلة الثانية هي متابعة نتيجة السياسة المخططة والمتبعة والصادرة عن السلطة ( كسياسة عامة) والمتابعة هذه تعد مصدرا للتغذية الاسترجاعية التي على أساسها تقاس مديات تطابق التشريعات مع مصالح المجتمع ، لكن يتوجب علينا أن نبين معنى أن يكون رأيا ما ، رأياً عاماً . وعليه ماهي شروط أن يكون القول أو الفكر أو الخطاب الجمعي رأياً عاماً ؟اعتقد انه يمكن تلخيص هذه الشروط بما يلي:1- أن تكون هنالك حكومة منظمة ، فمن دون سلطة تنظم مطالب الرأي وتستجيب له ، يكون من السخف أن نقر بوجود رأيا عاما .([2])2- وجوب وجود نوع من التجانس الاجتماعي والذي يمثل مفهوم الأمة ، وذلك بالضد من الانقسامات الطبقية أو السياسية أو الدينية أو العرقية والجنسية ، وذلك لان أي رأي لايمكن أن يأخذ شرعيته باعتباره رأيا عاما مادام مفهوم المصلحة العامة - التي تتمثل بالهوية الكبرى أو الأمة التي تجمع تحتها كل الانقسامات المتوقعة والتي تعرقل نشوء رأي عام - غائب .3- يجب أن يكون للأقلية حرية التعبير عن جميع آرائها بشرط الوسائل السلمية ، وذلك لأن هامش الحرية هذا يعد مبررا لتكوين الرأي العام وان كان يمثل رأي الأغلبية دونما الأقلية وان كان قد خالفها ، اعتقادا منها إنها شاركت بإبداء رأيها بكل حرية وإنها لم تضطهد من الأغلب بل إنها ستعمل من اجل كسب رأي البعض من الأغلبية إلى صالحها ، وهذه الإمكانية المتاحة تعطي نوع من الشرعية للرأي العام . ([3])4- أما عن تحقيق ماهية الرأي فليس كل ما يصدر عن الشخص من موقف يعد رأيا فقد يكون ليس صادرا عنه وعن إرادته الواعية الحرة ، وعليه يجب أن لا يكون الموقف والرأي صادرا عن الغير ومتبعا بصورة عمياء وتبعية بلاوعي ، بل يجب توفر الفهم والوعي لرأي الغير([4]) ، ودليل ذلك انه لايمكن عد الرأي الصادر من بعض الأشخاص الطيبين مثلا أو رجال الدين إتباعا أعمى وغير نقدي وغير واعي أو متفهم لأبعاده على انه رأي خاص بنا ومن ثم بمجموع مثل هكذا آراء يكون قد حققنا رأيا عاما ، لا فهنا الرأي لا يعد عاما لأنه ليس خاليا من هيمنة الآخر أو الغير وغياب الحرية للفرد صاحب الرأي وبالتالي غياب حرية المجتمع . وعليه وبعد بيان مستلزمات قيام الرأي العام ، فانه يتحتم علينا أن نفهم بيئة تكونه، وأدوات اتصاله بالسلطة ، واعتماد السياسة العامة عليه .والبيئة الأساسية لتكوين الرأي العام هي المجال أو الميدان أو الفضاء العام ويقصد به : " مجموعة مؤسسات وأماكن عمومية تقف بين المجتمع المدني والدولة ، وتمارس الوساطة بين المصالح العامة والمصالح الخاصة "([5]) وهو يتكون من الصالونات الأدبية والثقافية بالإضافة إلى المقاهي والمشارب والأماكن المشتركة التي تجعل إمكانية قيام رأي عام يعارض أو يتابع سلطة الدولة وبرامجها قائماً .و تلعب المعارضة والنقد والتقويم دور الثيمة الأساسية في الرأي العام ولاسيما حينما تظهر كمطالب تجاه النظام السياسي وسلطته من اجل تعديل نتائج السياسة العامة والحكومية لكي تكون ملائمة للمصلحة العامة ، وعليه يرى البعض إن القدرة على المعارضة - وهي عنصر تكويني أساسي في اللعبة السياسية- هي في طريقها إلى الاختفاء ، وعليه ينبغي إذا إعادة إطلاق أخلاقية المناقشة والحوار للتصدي ولصنع الرأي العام والذي هيمن عليه محترفو السياسة والتسويق وشركات الإعلان ، لذلك يتضح أهمية الرقابة على عالم السياسة ([6]) ، وعلى ذلك فإن إعادة البعدين الأخلاقي ( بين أفراد المجتمع عبر الحوار العقلاني ) والنقدي( الذي يبين هيمنة واستعمار السلطة والسوق للرأي العام ومجاله وبالتالي يتحكمون بمصير المجتمع) هي الكفيلة بإعادة هيكلة الرأي العام الناجح المؤثر بفعالية على قرارات السلطة ورجال السياسة . ومن ذلك يجب أن يكون الرأي العام "صندوق رنّان للمشاكل الاجتماعية الشاملة "([7]) وبقدر مايسعى الرأي العام التأثير في السياسة العامة بل وفي النظام السياسي ككل ، نجد أن العكس - أيضا موجود وبقوة ووضوح- وهو تدخل السلطة عبر أدواتها مثل الأحزاب {ووسائل الإعلام} في التأثير على الرأي العام ([8]) .وعليه يبقى الجدل قائما بين السلطة والرأي العام عبر تبادل التأثير وذلك ما ينعكس على السياسة العامة .قيام الرأي العام في العراقعقبات لابد من تجاوزهابعد ما تقدم من توضيح لمعنى الرأي العام والأسس والشروط التي يجب توفرها فإنه تتضح الإجابة عن التساؤل الذي يستفهم حول إمكانية وجود رأي عام في العراق . وهي ( أي الإجابة) انه غير موجود وهذا لا يعني انه كان وقد اختفى بسبب الظروف السياسية التي مر ويمر بها العراق منذ عام 2003 ، لا بل إن غياب الرأي العام يمتد إلى حقبات ابعد وأكثر عمقا في جذورها التاريخية ، وقد لا أبالغ إن قلت إنها تمتد إلى نشوء أولى النظم السياسية الغابرة ، حيث إن الولاء والرأي الأول والأخير لم يكن لمجموع الشعب وإرادتهم العامة وعليه لم يكن بإستطاعتهم أن يعوا أهمية أن يكونوا هم أصحاب الموقف ، بل كانت سياسة الاتكال القهري و القسري هي النافذة ، لذلك كانت الأمور موكولة إلى الكهنة تارة والى الحكام تارة أخرى ، وامتد وتواصل هذا المشروع حتى الفترة المعاصرة ، وبالرغم من ظهوره( الرأي العام) بشكل واضح وجلي في منتصف القرن الثامن عشر (1712-1778) مع روسو ومفهوم الإرادة العامة وان كانت تمثل أعظم من مفهوم الرأي العام الدارج اليوم إذ كانت تمثل السلطة الحقيقة والسيادة الجمعية للشعب على السلطة وليس في قبالها ، إلا إن الرأي العام وان اخذ ينحت باتجاه كونه موقف جمعي مثل الأغلبية أو إجماع المجتمع تجاه قضية من قضايا الشأن العام أو الشأن السياسي ، إلا إن العراق لم يستطع أن يستقبل هذا الضيف ،حاله حال الدول الشرق أوسطية التي كانت خاضعة لحكم إمبراطوريات تعسفية متطرفة دينيا ، أو تداول لإحتلالات واستغلال من قبل دول أجنبية ، دعا كل ذلك إلى عرقلة تنمية الفكر العراقي كجزء من كل هو معظم الشرق الأوسط ( أو ما يسمى بالعالم العربي) إلا إن بادرة الأمل كانت قد سجلت حينما تأسست الدولة العراقية كدولة بالمفهوم الحديث الذي يعتمد الشعب والحدود الجغرافية والسلطة السياسية أُسساً له .إلا إن النظام الملكي وانتهاجه منهج وبرنامج إبقاء الحال على ماهو عليه باستثناء الخواص من الإقطاعيين والبرجوازيين ( واقصد بهم أصحاب الامتيازات والوجهاء وملاك رؤوس الأموال و..) كان بدوره يعد عقبة أخرى في سبيل تنمية الواقع العراقي الاجتماعي وبالتالي عرقلة قيام رأي عام أو حتى قيام أي رأي جمعي .وتتالت الحكومات وبقي مشروع الإبقاء على ثقافة التخصيص الفئوي لرجالات السلطة وبالتالي للمؤثرين في القرار العراقي السياسي مقتصرا في كل فترة على أناس دونما غيرهم متناسين بذلك إنهم قتلوا موضوعة التجانس الاجتماعي ومحاولة تذويب الفوارق الاجتماعية والسياسية التي نشأت بسبب هذه السلوكيات .وكذلك وحينما ظهر مفهوم وممارسة الحزب السياسي في العراق فإنه لم يستطع أن يتعامل مع موضوعة الرأي العام وتنميته وذلك لأسباب مختلفة منها هلامية معالم الحزب نفسه وتمثيله للأقلية في اغلب التجارب في العراق ،و اعتماد موضوع الحزب المهيمن والأوحد كنموذج للممارسة الحزبية في العراق مما حدا بالرأي العام لان يكون خاضعة لقوة السلطة ( العسكرية وغيره ) كما أصبح أسيراً لشبكات الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة والتي أحكمت القبضة على حرية الرأي عبر توجيهه في صالح السلطة على الدوام .وحينما وصل العراق إلى المرحلة الجديدة عام 2003 والتي هدت النظام الاستبدادي معلنة بداية جديدة شبيهة بمرحلة تأسيس الدولة العراقية في العشرينات ، وذلك عبر محاولة إقامة نظام سياسي لم يشهده العراقيون ولم يعوه بعد ( النظام الديمقراطي الحاضر ، والملكي النيابي سابقا) وبعد انبثاق أول الدساتير المشرعة باستفتاء شعبي في العراق وتأسيس البرلمان وانتخاب أول حكومة كمشاركة فعلية للشعب وخالية من الهيمنة والاستبداد نوعا ما ، نشأ نظام تعددي حزبي نقل المعادلة من الحزب الواحد إلى انفراط عقد التعددية الحزبية لتجد نفسها أمام أزمة أخرى وعقبة مضافة في طريق تكوين الرأي العام في العراق ، لان المعلوم إن اغلب الأحزاب المتشكلة بالعراق أصبحت تشبه العمل النقابي الذي يمثل فئات معينة من الشعب دون غيرها (المصالح الخاصة لفئة دونما غيرها) ، وذلك سبب غياب الأحزاب الوطنية الكبرى ( عن التأثير والتمثيل )والتي يمكن لها أن تمثل الطموح .إذن يمكنني أن أوجز عقبات قيام رأي عام في العراق بالاتي:1- غياب مفهوم الأمة والذي تجلى تاريخيا بالتفضيل الطبقي والعرقي والديني والسياسي مما حدا بالتجانس الاجتماعي المفترض قيامه تلازما مع نشوء الدولة العراقية كدولة حديثة . وذلك لان الدولة الحديثة مرتبطة ارتباطا لصيقا بمفهوم الأمة .2- ترتب على غياب مفهوم الأمة غياب إمكانية تمثيل حزب معين للشعب برمته أو أغلبيته ، لذلك أصبح العمل الحزبي رهين المصالح الفئوية والخاصة ؛ وان كان هذا الأمر ينطبق على الكثير من الأحزاب على المستوى العالمي .3- غياب البيئة المناسبة لنشوء وتنمية الرأي العام واقصد بها : غياب فاعلية الصالونات الأدبية والثقافية واقتصارها إما على الابتعاد وهجرة الواقع وهي المهمة التي يقوم بها الفن العراقي اليوم أو عبر المنتوج الثقافي الذي ينأى بنفسه عن السياسة بسبب تراكمات الماضي (التي كممت الكثير من الأفواه وجففت الكثير من الأقلام) ، وان كان لا يخفى مساهمة البعض من الباحثين و الاكاديمين والمثقفين في إنتاج ما يمس الشأن العام تحليلا ونقدا ، إلا انه بقي للان محصورا في قفص المراكز الأكاديمية ،ومن المشاكل الأخرى التي تهدد قيام الميدان العام الذي هو أساس الرأي العام هو افتقاد هذه البيئة عناصر تكونها بسبب الإرهاب الفكري والجسدي الممارس من قبل البعض من فئات المجتمع العراقي ولاسيما الجماعات المتطرفة.وعليه إذا أردنا أن ننشئ رأيا عاما عراقيا فإنه يتوجب السعي نحو بناء مفهوم الأمة العراقية ، وتخليص الأحزاب من الأطر التي أطرت نفسها بها ( الفئوية) نحو مشروع رحب هو الوطنية العراقية ، كما إننا يجب أن نسهم إسهاما واضحا مشتركا (مجتمعا وسلطة) في سبيل إعادة بناء المجال العام الذي هو البيئة والأرضية الواجب توفرها لخلق الرأي العام .وهنالك من يعتقد بوجود رأي عام اليوم في العراق إلا إنه يجب أن يميز بين كونه تابع أو حر ومستقل هذا أولاً ، وثانيا إن مانشاهده من عمليات للتعبير عن الرأي الجمعي في العراق في غالبه يفتقد الروح المنهجية التي يتطلبها ممارسة الضغط أو تكوين المطالب والتي مازالت غير واضحة المعالم في كل التجمعات أو النقاشات حول موضوعات الشأن العراقي العام ؛ كما إنها في الغالب جاءت كردود فعل على ممارسات المغاير له في الهوية الفئوية ولم تكن تمثل الأمة العراقية.
دراسة للاستاذ المحمداوي تنشرها المجلة السياسية والدولية عن الديمقراطية ومفهومها ومعانيها في المجتمعات المتجانسة والمتعددة

نحن واستشراف المستقبل
مشروع حضاري بحاجة للانجاز

علي عبود المحمداوي
مدرس الفلسفة المساعد في كلية الآداب– جامعة بغداد
علم المستقبليات :(علم لبناء مشروع حضاري )

استشراف المستقبل ودراسته وما له من أهمية في حياة الإنسان ومجالات السياسة الدولية ومصالحها كل ذلك جعل منه موضوعاً مهماً وحيوياً ، وعلى أساس تلك الأهمية خصصت له عدداً من مراكز للبحوث والدراسات الاستراتيجية وجمعيات ومنظمات أخذت على عاتقها الاهتمام بهذا العلم والعمل من اجله ، "وبالرغم من أن الخبرة الإسلامية لازالت متواضعة بالقياس إلى التقدم الذي أحرزته الدول الأخرى في هذا المجال " وكذلك الواقع الفكري للعرب والمسلمين والذي يجعلهم حبيسي الماضي والتراث أكثر من أن يكونوا متطلعين إلى بناء مستقبل خاص أو نظرية فيه ، أو محاولة لصناعته " إلا أن محاولة التعرف على المستقبل والاهتمام به لم تكن وليدة عصرنا هذا أو من إبداعات الفكر الغربي على وجه الخصوص ، وإنما هي مسألة طبيعية بدأت منذ أن انفتح الإنسان القديم على أسرار الطبيعة وبدأت علاقته بالوجود .
البحث في المستقبل الغايات والأهداف : والبحث عن الغاية والهدف من الوجود والبحث عن السعادة وتنظيم العمل والأفكار في سبيل المستقبل الأفضل إنما هي أفكار فلسفية قديمة متجددة وبذلك فان الموضوع اخذ أهميته من جهة كونه مسألة فلسفية ملحة و لحاجة الإنسان دائما إلى تفسير الوجود والبحث عن غايته كما قلنا انفاً ، فأساس فكرة البحث والتنظير والتخطيط لمستقبل ما ( هدف إنساني سابق بالقدم ) لا يجعل ممن يتناوله بالبحث والدراسة مقتصراً عليه وحكرا لانتماء الثقافي أو الفكري الخاص . وعلم المستقبل (Futurology ) : هو علم يهدف إلى توقع الأحداث القادمة والاستعداد لها ومحاولة التأثير فيها ، وكذلك تطوير طرق أفضل للتفكير في عالم الغد ، وكذلك هو دراسة وتوقع وتأمل وارتياد وبحث لأحداث الغد المتوقعة ، وهو كانت دائماً محوراً رئيساً للأحوال الإنسانية فبقاء الإنسان نفسه يعتمد إلى حد كبير جداً على قدرته الواعية على تنظيم الأحداث الحالية في ضوء الخبرات السابقة والأهداف المستقبلية.علم المستقبليات و العالم الإسلامي و العربي :وفيما يخص عالمنا (الإسلامي والعربي ) فإن الكتابات في هذا المجال ظهرت مؤخراً و تعد نادرة إذا ما قورنت بالآخر (الغربي) ، ولا يعني ذلك إن الاهتمام باستشراف المستقبل مسألة مقصورة على المجتمعات الغربية ... إذ إن التفكير في المستقبل احد أهم الهواجس التي شغلت فكر الإنسان منذ بداية ظهوره على سطح الأرض في العصور المبكرة وخلال كل مراحل التاريخ فقد كان الإنسان يرصد دائماً الإحداث التي تدور حوله ويعمل على استشراف التغيرات المستقبلية ، وبعد أن انتبه الانا الإسلامي – العربي إلى أهمية علم المستقبليات والدراسات المستقبلية وتبين له انه يمكن أن يكون بديلاً جيدا عن أفكار الواقع الديني و القومي المبتني على أساس التراث المقدس - الذي لا يغيَّر ولا يطوَّر - فكان لزاماً عليه الالتفات إلى انه إذا أراد أن يبني مستقبل أو ينظر له ، فيجب أن تكون البداية من الآن ومن التوجه والنظر إلى واقعنا قبل النظر إلى الآخر ( الحضاري) ونقده ، وتنطلق المستقبليات من منطلق قدره المعلومات في المساعدة على رسم صورة المستقبل‏ ..‏ وإن لم يفكر أبناء الحضارة لمستقبلها فكر ورسم الآخرون لها ؛ تحت هذه المقولة لابد وان ننظر لحقل أو علم المستقبليات ونقدم فيه ما من شأنه أن ينأى بنا عن موقع التخلف والانغلاق والجهل ‏، والمقصود هنا إن هذا العلم في خدمه المفاوض والمخطط الاستراتيجي لدولة أو جماعة ما‏ ، ومن هذا يتبين ما لهذا العلم من أهمية في رسم صورة المستقبل بشأن الهوية اولاً والعلاقة مع الآخر ثانياً .وقدمت في هذا المجال دراسات عدة من مفكرين عرب وإسلاميين تهدف إلى بناء مشروع نهضوي مستقبلي ، مشروع حضاري لا على أساس الواحدية التي تنفي الآخر بل على أساس مشروع حضاري إسلامي يقبل الآخر كموجود معترفاً به متسامحاً معه قابلاً لوجوده ككيان منفصل بهويته متصلا بتعامله وقبوله الآخر، واخترنا من هذه المشاريع مشروعين هما :1) مشروع الجابري وعلم مستقبلات خاص بنا : يرى محمد عابد الجابري إن عدم تمكننا من تقديم فلسفة للتاريخ تعطي معنى لحاضرنا هو احد أسباب عجزنا عن التخطيط لمستقبلنا ، ذلك لان أية فلسفة للتاريخ ليست قيمتها في ذاتها فهي لا تقدم معارف علمية عن الماضي بل كل قيمتها بما تقوم به من دور في الحاضر ، وبحثاً عن تحديد لأهمية فلسفة التاريخ التقدمية أو ما يمكن أن تقدمه فلسفة التاريخ من فائدة أو اشتراك مع الدراسات المستقبلية التي تعد بالتقدم والنهوض ، يتعرض إلى بحث فكرة فلسفة التاريخ عند كل من ابن خلدون وكوندرسيه ، فهو يعتقد أن حاجة العرب لفلسفة التاريخ برزت مع ابن خلدون يوم كان حاضر الوطن العربي والإسلامي يشهد تغيرات متلاحقة مزدحمة ... ولما كانت هذه التغييرات تعكس في اتجاهها العام " تراجعاً" وليس تقدماً فلقد اتجه صاحب المقدمة إلى تفسير التراجع لا التقدم ... ومن هنا كانت فلسفة التاريخ الخلدونية فلسفة للتراجع ، في حين كانت فلسفة التاريخ عند مفكري أوروبا في عصر النهضة والتنوير فلسفة للتقدم ، ويتبين لنا مدى التفاؤل والأمل الذي يتمتع به مفكر تلك الفترة ، مع كون الظروف مشابهة لظروف ابن خلدون مع اختلاف نتيجة كل منهما ، وان السعي والتقدم والطموح هو ما يحكم الفكر الأوربي حينها على الخلاف تماماً من فكر ابن خلدون الذي تصور إن العالم قد انتهى . ومع علم المستقبليات نجد أن الجابري يبني تخوفاته من هذا العلم ولاسيما الذي يطرح اليوم بشكل منظم ومستوفي لشروط التنظير والتخطيط إذ يعتقد إن " علم المستقبلات كما يطبق في الغرب اليوم ، هو بالنسبة إلينا شعوب العالم الثالث ، علم مخيف يبشر بالكارثة ، بالانحطاط ، والانقراض " ذلك لان الانطلاق من معطيات الحاضر العربي الذي يسوده التمزق الاجتماعي والتخلف الفكري وخاضع للهيمنة الإمبريالية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وأيديولوجيا ، لا يمكن أن يسمح لعلم المستقبلات ولا لأي علم آخر يعترف بمعطيات الواقع الراهن كحقائق موضوعية نهائية و من ثم يعمل على إسقاط ممكناتها على الغد القريب والبعيد أن يقدم لنا عن المستقبل إلا صورة طبق الأصل عن الحاضر نفسه ، إن لم تكن اشد شؤماً وأكثر ايلاماً وهي في جميع الأحوال لاتبعث على الأمل ولا تقود إلى العمل وعليه يرى الجابري انه يجب أن يكون لنا علم مستقبلات خاص بنا يبشر بالأمل ويحفز على العمل ويقول :" نحن بحاجة إلى أن نعيش مستقبلنا في حاضرنا ومتكئين على ماضينا " ولكن ليس مجرد حلم نهضوي مهلهل قابل للتفكك والتبخر تحت أي صدمة أو كابوس بل كحلم فلسفي عنيد ، حلم يصر على تحويل التاريخ ، حلم يقوم بوظيفة التطهير والإعلاء فيحقق للذات الحالمة ما هي بحاجته من الاستواء والطمأنينة والاتزان ومن ثم تحويل الحاضر كما يقول الجابري إلى جسر يصل بين المستقبلين : يدمج الماضي في المستقبل ويجعل المستقبل ميداناً لتحقيق الماضي واعني إنجاز ما ممكن تحقيقه فيه ولم يتحقق . و يصل الجابري إلى نتيجة صياغة المشروع الحضاري العربي الذي يعده مشروع الماضي ومشروع المستقبل إذ عبر عنه بالنزوع إلى تحقيق أهداف ثلاث هي : الوحدة والتمدين والعقلنة . ويرتبط عرض فكرة الجابري عن مشروع الوحدة العربية وتمدينها وعقلنتها بفكرة نقد الذات ومراجعتها وتنظيم امورها وهذا النقد كفيل باصلاح الرؤية نحو الاخر .2)وفي المشروع الديني الإسلامي الحضاري يرى زكي الميلاد إن الدراسات المستقبلية في عالمنا العربي والإسلامي لن يتأتى له النهوض والتقدم إلا بشرطين أساسيين هما : اولاً : أن يرتفع العالم العربي والإسلامي بنفسه خطوات نحو التقدم العلمي، فالبلدان العربية والإسلامية ما لم تشهد تقدماً ملحوظاً في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية وحتى الطبيعية والتطبيقية فان نمو الدراسات المستقبلية وتطورها لا ينفصل وتقدم هذه العلوم، والتراجع الذي نلاحظه في ميادين العلوم إنما يكرس تراجعاً اشد في حقل الدراسات المستقبلية. ثانياً :إن مجالات البحث العلمي والدراسات المستقبلية بحاجة إلى دعم مالي يلبي كل حاجات ومستلزمات البحث والباحثين والاستعداد في العالم العربي والإسلامي لهذا الدعم لا يزال ضئيلاً ومحدوداً ،وبعد أن يناقش الميلاد مسألة حاجة عالمنا الإسلامي إلى علم المستقبليات والأسس التي تدعم قيام هذا المشروع نجده يصل إلى خلاصة أفكار ومناقشات يضعها في عدة نقاط لتأسيس علم مستقبليات إسلامي ويناقش فيه الوضع الراهن للعالم الإسلامي ومدى تأثيره السلبي إن استمر على ما هو عليه على الإسلام ، هادفا إلى تأسيس علم للمستقبليات يهتم بالشأن الإسلامي كنظرية بحاجة إلى تطبيق فعلي بعيداً عن واقع العالم الإسلامي المرير، ويضع كل ذلك بعدة نقاط وملاحظات منها: انه لا تزال قدرتنا في العالم العربي والإسلامي على دراسة المستقبل ومستقبل الإسلام والعالم الإسلامي على وجه التحديد تعاني من ضعف وقصور ، فهنالك حاجة ماسة إلى العناية بالدراسات المستقبلية الإسلامية وتطويرها في المؤسسات العلمية في المجتمعات الإسلامية وغني عن القول إن الدراسات المستقبلية الإسلامية لا يمكن أن تتم بصورتها المثلى إلا إذا تمت من خلال مراكز البحوث العلمية المتخصصة وإن مستقبلنا يجب أن نصنعه نحن بأيدينا لا أن يصنعه الآخرون لنا ، ونبتكره من داخل حضارتنا وهويتنا وثقافتنا ، لا من داخل حضارة وهوية وثقافة الآخرين ، والمستقبل الذي نريده لأنفسنا ، ليس هو بالضرورة المستقبل الذي يريده الآخرون لنا ، ونحن من يجب أن نختار طريقنا إلى المستقبل ، لا أن نقع في طريق الآخرين (بوعي أو من دون وعي) ، ونعتبره هو طريقنا إليه ويكفي ن نتعلم من الماضي والحاضر كيف نبني مستقبلنا و ، وبملخص للنقاط الأخرى التي يسردها الميلاد نجده يرى بان العالم الإسلامي بحاجة ماسة وملحة إلى إصلاحات على جميع الأصعدة العلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وعلى المسلمين إعادة المكانة والقدسية والاحترام للعلم لأنه مع العلم توجد الحضارة والعكس صحيح ، كما وعى العالم الإسلامي الافادة من تجارب العالم الحضارية ، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الإسلام لديه القدرة الكبيرة على البناء والعمران وصنع التقدم والحضارة ، والمستقبل هو الأمل الذي ينبغي ن نبتكره بأنفسنا لبناء حضاري جديد في ظل عالم متغير ، وقد صحت مقولة إن المستقبل يبدأ من الآن ومن هنا ينبغي أن نبدأ. لذا ونحن إذ نفكر في المستقبل ، إنما نحاول في ذلك أن نستعد لمواجهة الحوادث والطوارئ المتوقع منها أو الغير متوقع ، ويجب أن يكون ذلك الاستعداد من الأهمية بقدر ما نحاول من قراءة الأحداث وتشخيص الواقع الحاضر ، فالمستقبل ليس مشروعاً مطلقاً وعاما ً جاهزاً للتطبيق ، وإنما هو ما نصنعه نحن بأنفسنا ، وعالمنا عبر ما ننتجه من الواقع والحقائق ، فهو قدرتنا على ابتكار الجدد والمهم غير المسبوق ، مستقبلنا إذن ؛ هو رهاننا على أن نغير مما نحن فيه فكراً وممارسة نظريةً وتطبيقاً ولكي نغير علاقاتنا بذواتنا وبالواقع ولذا فمن يفكر في أمر المستقبل لا يرجم بالغيب ، وإنما يحاول أن يقرأ ما يحدث ليسهم في تشكيل العالم وصناعة مشاهده وأحداثه .يه او يرتبط بلا انفكاك .

علي عبود المحمداويمن هو المثقف؟ ماهو تعريفه ؟ وهل يمكن ان تكون الإضافة او التقييد مقبولة مع تسمية المثقف ، كأن نقول المثقف الديني على سبيل المثال؟ يعرف أركون المثقف بأنه "من يتحلى بروح مستقلة ،محبة للاستكشاف والتحري وذات نزعة نقدية واحتجاجية تشتغل بأسم حقوق الروح والفكر، ومنه نرى النقد هو ما لازم معنى المثقف ومهمته وفي إجابة على التساؤل الآنف الذكر في معنى المثقف الديني يحاول الميلاد ان يجد ذلك التناسق والتجانس بين مهمة المثقف والمهمة الدينية وذلك من خلال اشتراكهما في هدف قول الحق والذي يقابله في مفاهيم منظومة المثقف الفكرية بمصطلح النقد.وأرى ان حقيقة النزعة النقدية هي جوهر وماهية المثقف ، وبالتالي فإن محاولة انتزاع النقد عن المثقف يمثل نفياً لهويته وكينونته ، ومنه نتساءل أين نجد المثقف الإسلامي او الديني ؟ وهل يستطيع ان يوجه نقداً حراً مفتوحاً مع وجود تعاليم وحدود وقيود وقوانين تحد وتؤطر من مستوى ذلك النقد؟
صدر في العاصمة السورية دمشق عن دار صفحات للدراسات والنشر, كتاب بعنوان: (الفكر الشيعي المعاصر رؤية في التجديد والإبداع الفلسفي.. الصدر, المدرسي, الميلاد نماذج), لمؤلفه الباحث العراقي الأستاذ علي عبود المحمداوي الذي يشغل منصب مدرس مساعد في قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة بغداد.
ويحاول الكتاب البحث عن ملامح وعناصر التجديد والإبداع الفكري والفلسفي في الفكر الإسلامي الشيعي المعاصر, بالاستناد على ثلاثة نماذج معاصرة, تمثلت في السيد محمد باقر الصدر, والسيد محمد تقي المدرسي, والأستاذ زكي الميلاد.
وقد حاول المؤلف الكشف عن عناصر التجديد والإبداع عند كل واحد من هؤلاء النماذج الثلاثة, حيث بدأ الحديث عن السيد الصدر, ثم السيد المدرسي, وفي القسم الثالث تحدث عن الأستاذ زكي الميلاد, حيث تطرق إلى مشروعه الفكري الذي يشتغل عليه, وأشار إلى بعض النظريات والاطروحات في هذا الشأن, وذلك بالاستناد على مؤلفاته وكتاباته وحواراته.
وفي خاتمة البحث اعتبر المؤلف أن الأستاذ الميلاد قد أبدع في مجالات عدة, يمكننا أن نذكر منها ما قدمه في مجال نظرية المعرفة وأسلمة المعرفة, ومقاربته للأصول على أنها منطق إسلامي. كما أبدع في قراءته الجديدة لجدلية السلطة والمثقف من خلال قراءة لتنوع ماهية هذه العلاقة, واختلاف تجلياته من إعلاء الثقافة على السياسة, إلى هيمنة السياسة على الثقافة, إلى مشكلة الخلط بين الثقافة والسياسة, ومن ثم معنى الثقافة كبديل عن السياسة.
كما نحت الميلاد معنى جديدا لمفهوم المثقف الديني وحدد له مهام أعادت له موقعه القوي بين نماذج المثقفين الآخرين، معتمدا في ذلك على أن روح المثقف والتي هي النقد لا تتعارض مع كون المثقف متدينا, وما إلى ذلك من تداعيات ونتائج.
وفي أهم ما قدمه الميلاد كمهتم بشؤون المسألة الحضارية هو نظريته في التعامل مع الآخر الحضاري, والتي جاءت بالضد من نظرية صراع الحضارات, وتصحيحا لنظرية حوار الحضارات, وهي تعارف الحضارات.
"الذات والآخر" أو "الأنا والغير" ثنائية محمومة ساخنة منذ ظهورها كمشكلة معرفية أو مقياس للحقيقة ومرورا بانتقالها إلى الحيزين الاجتماعي والسياسي ومازالت كما كانت ، إلا ان كل المسيرة السابقة انتصرت للذات في مقابل الآخر ، الا ان قلبت المعادلة بقوة مرافقة لإعادة تأطيرها وصياغتها مع دريدا ( الفيلسوف الفرنسي) في مشروعه العدمي التفكيكي ، واقصد إعادة قلب الثنائية لا من اجل مركزية الآخر على حساب الذات وإنما من اجل تحقيق حضور الغائب بتعادل كفتي الثنائية الذات والآخر ، والسؤال هل نمارس نحن اليوم ومن خلال قرائتنا وكتابتنا وسلوكنا هذه المنهجية ؟ هل مازلنا ننتصر لمركزية الذات في قبال الآخر ؟ بالتأكيد إن الإرث كبير على عقولنا ولاسيما بسبب المنظومة المعرفية التي تسيرنا والتي اعتمدناها كمعيار للحقيقة ، إلا إن الأمر لا يمكن أن يقف عند هذا الحد فقد ان الاوان إلى أن نحقق ذاتنا من خلال ضرورة وجود الآخر ، ويمكن ان ينطبق كلامنا هذا إذا أبعدناه عن ممارسة القراءة والكتابة على سلوكياتنا واقصد فحص منهجيات سلوكياتنا تجاه الآخر ولنأخذ على سبيل المثل النموذج الذي يعنى بالآخر ويعده موجود يحتاج ونحتاج للتعامل معه وهو منهج التسامح ولنتساءل هل هو كفيل بحل مشاكل العنف والإلغاء التي نالت منا ؟ اعتقد أن التسامح أصبح اليوم منقوصا وذلك لان فيه كذلك انتصار للذات والتمنن على الآخر ومنح الهبات والهدايا له لأنه الأضعف والأقل والهامش لا لأننا بحاجته ولا لأنه هو من يحقق حضورنا ولا لأنه كان وما يزال وسيبقى المانح والواهب والحقيقة التي نهرب منها ولا نستطيع مواجهتها ، الآخر هو من نريده ان يعترف بنا ، فهو مشروعنا وهو المبدأ والغاية والمنهج ، كيف يمكن أن نوظف خطابنا السابق كممارسة ؟ تجليات ذلك يمكن أن تتضح من خلال جوانب عدة منها : الجانب الاجتماعي وهو مايمكن أن نلمحه حينما نتعامل مع الطرف الآخر من المجتمع على انه من يكملني ومن أنا بحاجته دائما وذلك من شأنه أن يخلق جوا من التعاون والعلاقات الاجتماعية الناجحة وعليه سيكون الكل يتعامل مع الكل على إنهم في مشروع كبير عنوانه إننا كلنا نتعايش سويا ولا يمكن أن يعيش احدنا بمفرده أو على حساب الآخر ، والجانب الثاني هو السياسي واقصد حينما يفقه السياسي أن عليه أن يلزم نفسه بممارسة تعني حق الآخر في أن يجد من يمثله تارة أو من يشاركه السلطة تارة أخرى أو حينما يشعر بمسؤولية الائتمان لصوت الناخب الذي أصبح آخراً في مخيلته ولم يعِ ذلك السياسي انه تحقق ووصل لما هو عليه بسبب ذلك الآخر، فإن وعى ذلك فإنه سيحقق حضورا عند الذوات الأخرى وسيحقق ذاته من جراء هذه الممارسة ، وجانب ثالث يعلو ويسمو على الجانبين السابقين إذ انه يتجاوز حدود المجتمعات من جهة وحدود الممارسة السياسية الضيقة ( اقصد بالضيقة السياسة الخاصة بإدارة دولة ما لشؤونها الداخلية) إلى فضاء رحب كبير اسمه الإنسانية فان وصلت هذه الدعوات والآمال إلى مسامع الإنسانية جمعاء فلبرما سيكون تحقيقها هو الغرض الأكبر والغاية المثلى والقيمة الأعظم وبالرغم من نسبية رأيي إلا انه يمثل دعوة من الدعوات نحو العيش المشترك وما دعوات الحوار الحضاري او حوار الأديان وتعارفها إلا خطوات في هذه السبيل الا انه كان ينقصها انها تنطلق من رؤية الذوات في قبال الذوات وليس تحقيق الذوات من خلال الاعتراف بوجود الآخر ، واعتقد إنها العقبة الكبرى لمشاريع الحوار تلك ، على العموم واكرر مقلته انفاً ، ما كلامنا الا دعوة وامل لكي يكون الاخر مشروعا لتحقيق الذات .




























No comments:

Post a Comment